المعطى الأول اليوم هو أنّ العالم لم يعرف منذ الحرب العالمية الثانية الحالة التي يعرفها الآن وهي حالة من الشلل التام الذي أصاب الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. توقفت كل مظاهر الحياة الخارجية على الكوكب تقريبا وتعطلت حركة المواصلات بشكل كبير شمل السلع والبضائع والأفراد في ظاهرة فريدة شكلا ومضمونا.
من جهة مقابلة تجندت الدول والحكومات لمواجهة الخطر الزاحف الذي قد يهدد ملايين البشر بالموت في حال عدم احتواء موجاته الأولى وكانت الصين مركز الوباء سبّاقة في وضع كل مقدراتها الطبية والصناعية واللوجستية للحد من انتشار الفيروس. وهو الأمر الذي تنسج على منواله أوروبا وأمريكا وأفريقيا ودول آسيا بإمكانياتها المتباينة.
إنّ أهمية هذه الكارثة الصحية العالمية لا تقتصر على ما أثارته من فزع دولي وخوف عابر للحدود يمتحن قدرات الدول بل هي حدث سيكون له ما بعده على مستوى علاقات الدول فيما بينها. وهو كذلك حدث سيكون له أثره على التوازنات الدولية في الاقتصاد والسياسية والاجتماع.
الوباء وفرضيات النشأة
لم يتوقف منذ مدة سيل الأخبار والتكهنات والفرضيات سواء ما تعلق منها بمصدر الوباء والجهة المسؤولة عن ذلك أو ما تعلق بالتداعيات التي سيتركها على الدول التي مرّ بها ونجملها في النقاط الآتية:
الوباء سببه فيروس طبيعي تطور انطلاقا من حامل له مثل الخفاش وأصاب به مواطنا صينيا في سوق يوهان للأسماك ثم انتشر الوباء بعد ذلك في المدينة لينتقل بعدها إلى كل دول العالم. هاته الفرضية الأولى تستبعد كل القراءات التي ترى في الوباء صناعة أريد بها تحقيق أهداف ما سواء في الصين أو خارجها.
الفرضية الثانية لا تختلف عن الأولى كثيرا لكنها ترى أن مصدر الوباء ليس طبيعيا بل أفلت عن غير قصد من مختبر جرثومي في مدينة يوهان الصينية ثم انتشر بعد ذلك بالشكل الذي نراه اليوم. هذه الفرضية تتأسس على وجود عينات من فيروس كورونا في هذه المدينة باعتبارها مصدر الوباء ولا يمكن حسب نفس القراءة أن تنتج المدينة بنفسها فيروسا قاتلا بهذه الشراسة وبشكل طبيعي.
إنّ أهمية هذه الكارثة الصحية العالمية لا تقتصر على ما أثارته من فزع دولي وخوف عابر للحدود يمتحن قدرات الدول بل هي حدث سيكون له ما بعده على مستوى علاقات الدول فيما بينها.
ترى الفرضية الثالثة أن المرض تمّ تسريبه عن عمد من المخبر المذكور الذي لا يبعد إلا كيلومترات عن سوق السمك مصدر الوباء ولا تزال أسباب ذلك مجهولة. هذه الفرضية تستند إلى وقائع كثيرة أهمها وجود بنك للفيروسات الخطيرة في المخبر المذكور وثانيها قصة الطبيب الصيني الذي كان أول من نبه إلى وجود المرض وإلى خطورته الشديدة. كما أن وفاة نفس الطبيب في ظروف غامضة وهو الذي يعلم خطورة المرض تزيد من تأكيد هذه الفرضية ومن دعمها.
أما الفرضية الرابعة فترى أن الفيروس جاء من خارج الصين وزُرع فيها زرعا وهي الرواية التي أصدرتها بعض المصادر الصينية المسؤولة عندما اتهمت الولايات المتحدة باستهدافها. تتأسس هذه الفرضية على محاولة السلطات الصينية إبعاد التهمة عنها ورميها على الطرف المقابل في إطار حرب إعلامية ذات أبعاد اقتصادية.
هناك إلى جانب الفرضيات السابقة فرضية أخرى انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي وترى أن الفيروس هو عبارة عن سلالة مصنعة شاركت فيها مخابر دولية بينها مخابر صينية وفرنسية وبريطانية. خصّت هذه الرواية بالذكر معهد باستور الفرنسي الشهير لكن المعهد كذّب الرواية ورأى أنها تدخل في إطار أدبيات المؤامرة التي تنشط خلال الأزمات مستفيدة من حالة الهلع والخوف بين الناس.
التداعيات
بناء على الفرضيات السابقة التي لا يمكن تحليليا دحض أو تأكيد أية واحدة منها على حساب البقية فإن فرضيات أخرى تخرج للعلن في ما يخص التداعيات المحتملة والآثار التي ستكون للكارثة الصحية. أهم هاته الفرضيات تتعلق بأثر الوباء الأخير على العلاقات بين الدول والكيانات السياسية في العالم التي ستتأثر بصيغة أو بأخرى بحالة الفزع الدولية الراهنة.
من بين هذه القراءات هنالك من يرى في الوباء جزءا من حرب اقتصادية بين الدول الكبرى التي تريد فرض هيمنتها على العالم وهي كذلك جزء من الحرب الاقتصادية والتجارية بين الولايات المتحدة والصين أساسا. ترجح هذا الاحتمال الوارد معطيات كثيرة على الأرض منها التراشق الإعلامي بين الرئيس الأمريكي الذي يصر في كل تصريحاته على تسمية فيروس كورونا "الفيروس الصيني" رغم احتجاج بعض الإعلاميين الأمريكيين على التسمية لما فيها من نفس عنصري ضد الأمريكيين من أصول صينية.
الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة لا يمكن إنكارها أو التقليل من خطرها، وهي التي عرفت في فترة الرئيس ترامب تصعيدا خطيرا في أحيان كثيرة.
من جهة أخرى أسرعت الصين إلى إعلان انتصارها على الوباء في وقت قياسي وقامت لأجل ذلك ببث لقطات مصوّرة تظهر خلوّ مستشفى يوهان المركزي من الإصابات بل وأظهرت الطاقم الطبي وهم يحتفلون بالقضاء عل المرض راقصين. كما أن الرئيس الصيني نفسه قد زار المستشفى دون قناع واق للتأكيد على خلوه من الفيروس.
تبقى هذه الرواية الصينية ضعيفة لأسباب عديدة منها ما يُطرح من أسئلة عن خلوّ كبرى المدن الصينية مثل العاصمة بيكين ومدينة شنغهاي من الظاهرة الوبائية، وهما مدينتان قد استقبلتا آلاف المواطنين من مدينة يوهان خلال الاحتفال برأس السنة الصينية قبل الحجر على المدينة. كما أن الطبيعة السياسية للنظام الصيني التي تتسم بالقمع والشمولية والرقابة الصارمة على وسائل الإعلام والتواصل لا تسمح بتصديق الرواية الرسمية.
الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة لا يمكن إنكارها أو التقليل من خطرها، وهي التي عرفت في فترة الرئيس ترامب تصعيدا خطيرا في أحيان كثيرة. لكن هل يمكن توقع أن تجازف الصين بصورتها كمصدر عالمي للأمراض والأوبئة من أجل مكاسب اقتصادية ضعيفة؟ وهل يمكن أن تجازف الولايات المتحدة كذلك فتتكبد خسائر اقتصادية ومالية لا حدود لها؟
لكن على واجهة أخرى من تداعيات الوباء على العلاقات الدولية ظهرت داخل الاتحاد الأوروبي وبين دوله حرب خفية بسبب رفض الاتحاد مساعدة بعض الدول الأعضاء على مواجهة الكارثة مثلما وقع مع إيطاليا. فقد استنكرت إيطاليا بشكل رسمي الرفض الأوروبي لدعمها بالمساعدات الطبية في أوج نزيفها بسبب الوباء وهو أمر يضاف إلى ما فعلته جمهورية التشيك التي استولت على مساعدات طبية صينية كانت في طريقها إلى إيطاليا.
أمام العزلة الإيطالية سارعت الصين إلى إرسال مساعدات هامة إلى إيطاليا محاولة الاستفادة من العزلة الإيطالية وتسجيل نقاط هامة على الساحة الأوروبية. هذا الموقف الصيني ردت عليه روسيا بسرعة شديدة عندما أرسلت هي الأخرى طائرات محملة بالمساعدات إلى الغريق الإيطالي في إطار حرب نفوذ باردة تدور رحاها على الرقعة الأوروبية.
لم يتحرك الاتحاد الأوروبي كثيرا لأن كل دولة داخله كانت مشغولة بمقاومة الوباء بسبب ضعف إمكانياتها وعدم استعدادها لمجابهة حالة مماثلة. وهو الأمر الذي قد تكون له نتائج مستقبلية على دول الاتحاد بشكل يغذي الأحزاب المتطرفة التي تطالب بالانسحاب منه والعودة إلى الحدود القومية لكل دولة.
رغم أنه من الصعب اليوم التنبؤ بتداعيات الوباء على العلاقات بين الدول وعلى طبيعة الأثر الذي سيتركه على الدول والمجتمعات، فإنه يمكن القول إنّ العالم بعد كورونا لن يبقى كما كان قبلها وقد تكون له آثار خطيرة لا تختلف عن التداعيات التي أعقبت الأحداث العالمية الكبرى عبر التاريخ.