منذ خمسة أعوام تحول (خالد منصور) من سلك الإخراج إلى تقديم البرامج. ارتبطت مسيرة (خالد) بشبكة قنوات النيل منذ البداية، فقد عمل أولاً كمساعد مخرج في قناة النيل للتنوير، قبل أن يتحول إلى قناة النيل الثقافية. ومنذ بدأ يظهر كمقدِّم للبرامج الثقافية وهو يبني جماهيريةً آخذةً في الاتّساع، خاصةً في الوسط الأدبي المصري.
وعن هذا التحوُّل وما أضافه إليه وما سلبه منه يقول خالد:
"بدايةً لا أؤمن بأفضليةٍ أو تراتُبيةٍ لمَجالٍ على الآخر. ربما أكونُ غيرَ مَعنِيٍّ بتحقيق الشهرة رغمَ رغبةِ كل مَن يكتب أو يقول الكلمة في الوصول إلى أكبر عدد من المتلقين، ولكن ما كان في ذهني أثناء هذا التحوُّل هو قدرة الشخص على التعبير عن ذاته من خلال وسيلة أو وسيط آخر يجد فيه طموحه.
تستطيع أن تقول إن الإضافة كانت في الدخول إلى وعي ضيوفي من خلال قراءة ما كتبوه. هي رحلة تضيف إليَّ كل يوم. لا تضيف إجابة وإنما تزايُدَ أسئلة.
إنها تلك السباحة المتواصلة في هذه البحار الرمادية بحثًا عن شواطئ يقين. أما ما سلَبتني إياه الكاميرا فربما هو تلك اللامبالاة نحو مظهري أو وجودي على هامش الحياة، فهي ترغمني على أن أكون موجودًا، وأن أتواصلَ مع الآخَرين، وأحيانًا أن أُبديَ أنني على ما يرام."
ولعلَّ المزيَّة الأكثر لَفتًا للانتباه في أداء (خالد) الإعلامي أنه لا يكتفي بالاعتماد على فريق إعداد برامجه، سواءٌ في ترشيح الضيوف أو الكتُب التي يناقشها.
لقد قرر منذ البداية أن يقرأ الأعمال الأدبية قبل استضافة مؤلفيها، وأن يناقشهم تفصيلاً حول مؤلَّفاتهم. وعن تقييمه لهذه الخبرة الأدبية الكثيفة يقول:
"أنا شخص شديد الشك. لا أستطيع تقييم تجربتي أو وصفَها بالخبرة الكثيفة! كان هذا القرار قرارًا شخصيًا نابعًا من شغفي كقارئ بالأساس، أكثر ممّا هو نابعٌ من احتياجي للتحضير للحلقة بهذه القراءة. وبالتالي فالإجابة ستكون حول ما تفعله بنا القراءة. هذا النهل من معرفة لا تنضُب، ومأزق الانسان الدائم وسط العالَم والوجود. ذلك المأزِق الذي عَبَّر عنه أساسًا بالكلمة. تلك اللذة المؤلمة. اختصارًا أعتقد أنني أصبحت أكثر حساسيةً ورهافةً تجاه الأسئلة التي تصبح نقاطَ تماسٍّ بيني وبين الكاتب من خلال عمله."
اقرا أيضا : "أسبوع المورد الثقافي" بتونس: بين مدونات وسياسات ثقافية
منذ قرابة عامين اقتحم (خالد) عالَم الكتابة النقدية من خلال بعض المواقع والصحُف، فضلاً عن بابٍ ثابتٍ باسمه في مجلة (عالَم الكتاب). فهل غيَّرَت الكتابة عن النصوص الأدبية طريقتَه في تلقّي هذه النصوص؟ يجيب (خالد) عن هذا السؤال:
"أنت مع كل قراءة جديدة لعملٍ ما ستجد طريقة مختلفة في تلقّي النص، تلك الخفايا بين السطور، قد تجد كلمة أو جملة تجبرك على إعادة التفكير، والنص كالعالَم وكالحقيقة متعدد الأوجه كبلورة قد تتعرف على عدد من أوجُهها مِن خلال قراءات متعددة. ولكن دعنا نقول إن الكتابة تجعلني أنا ضيفَ الحلقة، وقد قال لي صديقنا د. أحمد سمير سعد "أنت تكتب نفسك من خلال قراءاتك للنصوص."
أمّا عن رأي (خالد) فيما يحتاجه الإعلام الثقافي التليفزيوني ليجذب مشاهدةً أكبر واهتمامًا على نطاقٍ أوسع، فيقول:
"هو مأزق كبير. أعتقد أن البداية هي أن نُجيب عن سؤال: ماذا تحتاج الثقافة في مصر؟ ماذا نفعل لكي ينتشرَ حبُّ المعرفة ومكانةُ الكلمة في المجتمع؟ الجانب الآخَر مِن المأزق هو هذا العالم المتغير بتأثير وسائل التواصل الاجتماعي وسطوة (الترِند) على كل شيء، فالآن قد تجد مَن يُدرِّب كلبًا على أن يعضّه ليكون هو موضوع الخبر! أنتَ في مأزق حين تريد أن تصنع شيئًا جادًّا بعيدًا عن المُثير الساعي وراء (الترافِك) وعدد مرّات المشاهدة، ذلك المُثير الذي يكونُ كثيرًا مليئًا بالزيف والقبح والتشوُّه. أنت تفعل ما يرضي نفسك أوّلاً. تحاول أن تفعل شيئًا حقيقيًّا، حتى وأنت تعرف أن الأشياء الحقيقية تَخبُو شيئًا فشيئًا لصالح فُقّاعة الزَّيف الافتراضيّ. ولكن في النهاية علينا التفاعل بشكلٍ أكبر مع مُستجدّات العصر، ومحاولة معرفة عناصر الجذب التي تشمل الاختيارَ الصحيحَ لكلماتٍ قليلةٍ تثير الانتباه، لكن ليس بغرض الإثارة الرخيصة وإنما كدعوةٍ لتذوُّق الجَمال."
فماذا إذَن عن الكتابة الإبداعية؟ ألم تُراوِدْه فكرة خوض المجال الأدبي مبدعًا في أحد حقولِه كما راوده التصدّي للنقد؟ يقول في ذلك:
"أشعر برعب شديد من الإمساك بالقلم واجتياح الورقة البيضاء، إحساسٍ بمتاهة البحث عن المعنى ومطاردة الكلمة، وأنَّ الأعمال التي قرأتُها لا تساعدني أو تُكسِبُني ثِقةً، بل على العكس تجعلُني أتساءل ما الذي يمكن أن أقدمه، لكن أعتقد أنه عندما يحضر النص سيُجبرُني على الجلوس والكتابة .. أنتظر هذه اللحظة."
فما إذَن التحدّيات التي تواجه (خالد) باعتباره واحدًا من أوفَر مذيعي البرامج الثقافية حظًّا من الجماهيرية في الوسط الأدبي المصري؟ يعتبر (خالد) أن التحدي هو نفسه وميزانه الشخصي وسعيه نحو الكمال وإحساسه برقابة ذاتية تنبِّهه لاختياراته وكيفية تقديمها، بالإضافة إلى تَحَدٍّ آخر هو تحقيق الانتشار بهدف المشاركة في حب الكلمة والمعرفة. هذا فضلاً عن مجابهة ضعف الإمكانيات بمحاولة التجويد في المحتوى لتحقيق عنصر الجذب.
منذ بدأ خالد مسيرته الإذاعية، استُعِينَ به كثيرًا في تقديم الندوات الأدبية والأمسيات الثقافية غير المنقولة تليفزيونيًّا. فهل يرى أن مثل هذه الندوات والأمسيات يُثقِل جدوله أحيانًا؟! يجيبنا عن هذا السؤال:
"المشكلة ليست إثقال جدولي. بصراحة الإشكالية هي قِلَّة الحضور والتفاعل مع الندوات والأمسيات الثقافية ، أذكر أنني قدمت أمسية ثقافية مع واحد من كبار الشعراء المخضرمين ولم يكن بالقاعة حضور يتعدي أصابع اليد الواحدة. أنت في حالة التسجيل التلفزيوني تشعر أنه حتى في ظل ضعف المشاهدة فأنت تترك شيئًا يمكن استعادته وتحقيق مشاهدات جديدة، أما الفعالية الثقافية غير المُوَثَّقة فتشعر بلا جدواها في ظل حضور ضعيف كَمًّا أو كيفا."
كان (خالد منصور) قارئًا نهِمًا لكل ما يقع تحت يديه من الأدب السردي منذ ما قبل التحاقه بالإعلام، وكان يفضِّله على قراءة الشِّعر. وهو يرى سبب ابتعاد قراءاته عن الشعر كامنًا في طريقة تلقّيه للأدب وكيفية تعامُل عقله معه، فهو يعتقد أنه يميل إلى البحث عن تأويلٍ لما يقرأه وتصوُّرٍ لما يهدف إليه الكاتب، ويظنُّ أن الشِّعر يميل للبناء والإيقاع اللغوي بشكلٍ أكبر، ولِذا اعتقدَ أنه سيصعُب عليه التفاعُل مع الشِّعر. لكنه يرى هذه الرؤية تزول تدريجيًّا بالتعاطي مع نصوصٍ جيِّدةٍ ربما تمنحه مستقبلاً قدرةً أكبر على تذوُّق الشِّعر. والنقطة الثانية في معضلة علاقته بالشِّعر هي التعامل مع العالم من خلال رؤية شعرية. فهو يرى أن كُلَّ شخصٍ مهمومٍ برؤيتِه لنفسه والعالَم يطمحُ أن يكون إنسانًا شاعرا.
بعيدًا عن البرامج التي يستضيف فيها الأدباء، هناك برامج يظهر فيها صوت (خالد) فقط، كبرنامج (رسالتي)، قارئًا لتقارير ثقافية موجَزة (عن فيكتور هوجو مثَلاً)، فكيف يرى موقع مِثل هذه البرامج من رحلته الإعلامية؟ يجيبُ:
"هي تحدٍّ آخَر. في البداية كان التحدّي هو الوصول لطبقات الصوت الأكثر مناسَبَةً، والتأكد من إعراب الكلمات ومخارج الحروف، ثم أصبح محاولةَ اقتناص رُوح الموضوع الذي أقرأ التعليق له. وأتمنى أن أكون موصلاً جيِّدًا عبر صوتي."
كان (خالد) بالنسبة لأصدقائه حُجّة ومرجعية في موسيقى الروك الغربي بأنواعها – وأعرف ذلك بصِفَتي صديقًا قديمًا له - فهل يجد متّسعًا من الوقت لمتابعة ذلك الشغف القديم؟ أجابني عن ذلك بقولِه:
"دائما هناك وقت للموسيقى. صحيحٌ أنني قرأتُ دراسةً علميةً حول تمسُّكنا بالموسيقى التي أُعجِبنا بها قبل تخطِّينا سن الثلاثين مما يجعلنا نستعيدها باستمرارٍ ولا نكاد نُقدِم على اختيارات جديدة، إلا أنني أحاول الاستماع إلى أنواع مختلفة من الموسيقى، وأن أجعل ذائقتي أكثر ديمقراطية، فالموسيقى فن مُعجِز يدخل إلى وجداننا ويؤثر علينا حتى لو لم نَعِ تفاصيلَه المختلفة. إذا اطّلَعتَ مَرّةً على الـ(بلاي لِسْت) خاصَّتي فستجد تنوعًا عجيبا!"
هل يرى خالد أن سلوكه كمثقَّف تشكَّل في جزءٍ منه كردود أفعال تجاه سلوك السابقين عليه في الحقل الإعلامي؟ هل قررَ مثَلاً ألا يفعل مثل مذيع محدد، أو يتلافى خطأً سبق إليه آخَرون؟ وعلى الجانب الآخَر، هل يرى من نفسك تأثُّرًا إيجابيًّا بأحد مذيعي البرامج الثقافية؟ مَن إذن أثّر فيه إيجابًا منهم؟ وكيف؟ يجيب عن هذا السؤال:
"في مقاله الافتتاحي لعدد نوفمبر 2016 من مجلة فنون كتب د. حاتم حافظ "الآن وأنا أفكر في الأمر أعرف أن جيلي - جيل التسعينات - كان آخر الأجيال التي تهتم وتعبأ باعتراف الآباء. ما يعجبني في الجيل الجديد من الشباب - الجيل الذي تفتح وعيه مع ثورة يناير العظيمة - أنه جيل لا يبحث عن اعتراف أحد! هذا سر عظمة هذا الجيل وسر إخفاقاته في الوقت نفسه!" بالطبع أتمنى ألا يتحول الأمر إلى إخفاق، لكن ربما نحن جيل لا يؤلّه أحدا. لدينا قدرة على الاطّلاع على القديم والحديث وإبداء وجهة نظر موضوعية تجاهه دون تمرد جيليٍّ سخيف. نعم نحفظ للرواد حقهم والظروف الزمنية والإمكانيات المتاحة وقتها، لكن على سبيل المثال لا أستطيع تخيُّلَ أن يأتي اللقاءُ الذي أعدّه (أنيس منصور) للعملاق (عباس العقاد) مع (أماني ناشد) بهذه السطحية والاستسهال. وعلى صعيدٍ آخر، أشاهد الفقرة الثقافية بقناة فرانس 24 وتعجبني صياغة السؤال المُكَثَّف الدّالّ، وبالطبع يوجد العديد من مقدمي البرامج الثقافية ذوي الخلفية الإبداعية مثل ياسين عدنان وزاهي وهبي وبروين حبيب ومحمود شرف ومنى سلمان. هؤلاء أستمتع بمشاهدة حلقاتهم.
أخيرًا، كان يبدو أنه لا مفرَّ من السؤال التقليدي: كيف ترى الحياة الثقافية العربية من واقع انغماسك فيها كل هذه السنوات مناقشًا ومحاورًا وناقدا؟ كانت هذه إجابة خالد:
- أجدها تتسم بالزخَم، خاصة في مصر. وليس لدي اعتراض على اتجاه الكثيرين للكتابة. بل أجِدُني ضد السخرية التي تنتشر قبل معرض الكتاب من كثرة الكُتّاب المُعلِنين عن أعمالهم الجديدة. ولست أيضًا مع تلك المقولة الرائجة التي تقطعُ بأنْ ليس لدينا نقد. لكننا بحاجة إلى نقد يجيب عن الأسئلة المُثارة حول حقيقة تشكُّل تياراتٍ واتجاهاتٍ جديدةٍ في الكتابة بعد الأحداث الكبيرة التي مرت بها المنطقة العربية، وخاصةً مصر. هذا فضلاً عن حاجتِنا إلى إبراز الأعمال الجميلة بعيدًا عن حلقات الزيف من المجاملة أو سطوة الجوائز والمناصب. السؤال الآن هو: هل يمكن أن يعود المثقفُ لأخذِ مكانِه في المجتمع كمُحدِثٍ للتغيير، لا كمُنبطحٍ أو مزاحمٍ للحصول على مكاسب فردية؟! هذا هو الأكثر إلحاحًا في لحظتنا الراهنة.