لعل أخطر ما يواجه العالم العربي الآن، هي الارتدادات الناتجة عن إخفاق الثورات (أو الفورات) العربيَّة. فالإجهاض الذي مُني به "الربيع العربي" في مصر وسوريا، والتعثُّر التونسي، والوضع الليبي والجزائري والسوداني المأزوم، والكارثة الإنسانيَّة في اليمن؛ إضافة إلى إعادة تشكيل الأدوار التركيَّة والإيرانية إقليميّا، بتغيُّر المعطيات الدولية ومكونات المشهد الداخلي اجتماعيّا وسياسيّا؛ كل ذلك أعاد أسئلة قديمة- جديدة إلى ساحة التداول، وجعل من الإجابة عليها مُنطلقا شبه أيديولوجي تتمايز به ردود الفعل النفسية؛ لتكتسي الإحباطات الشخصية والعامة قشرة معرفية، وأحيانا عرفانية (أو غنوصيَّة!).
ومن الأسئلة التي أعيد طرحها: سؤال "
النهضة"؛ ماهيتها، وهل يبدأ الطريق إليها من
التراث (الفقهي والكلامي... وأحيانا يوضع الوحي نفسه في الكفَّة ذاتها!)، أم بالتخلي عنه لحساب منظومات فلسفية وقيمية ومعرفيَّة أخرى، منها ما تمت "أسلمته" في الثلث الأخير من القرن العشرين؟
ورغم أن أسئلة الثورة والدولة لم تُطرح في السياق العربي- الإسلامي بهذه القوَّة من قبل (ربما منذ انتصار الثورة الإسلاميَّة في إيران)، إلا أن الطرح في تنوع أطيافه وإجاباته المتناقضة يستلهم (بدرجة ما) أدبيات قديمة نسبيّا، رغم أنها لم تنل حظَّها من الجدل والرد وقت صدورها، بل ولم تشتهر أصلا بسبب غياب السؤال نسبيّا عن الواقع الاجتماعي.
ومن الأسئلة التي لا تقل أهمية عن سابقاتها، بل هي أهمها وإن كانت تنبني (جزئيّا) على موقفنا وإجاباتنا على ما سلف؛ سؤال: "الحركة الإسلامية"؛ ماهيتها وتركيبتها ودورها وعلاقتها بالمجتمع. ليست "الحركة" بالمعنى الحزبي المبتذل، بل بمعنى حياة المسلم على مقتضى دينه، وحركته في هذه الحياة انطلاقا مما يؤمن به. وهو سؤال ينبني على إجابته الكثير، بدءا بحقيقة دور المسلم في الوجود وانتهاء بمآله، مرورا بممارساته السياسية والاقتصاديَّة وطبيعة علاقاته الاجتماعية والدولية.
فلا غرو إاً أن تُعتبر الحقبة الراهنة حقبة تحولات هذا الجيل بامتياز، ولحظته المفصليَّة الكبرى التي تتشكَّل بها قاعدته القيمية والمعرفية الأساسيَّة، التي ستصدر عنها المعالم الرئيسية لحركته الإنسانيَّة خلال نصف القرن القادم. قد تَعرِض له لحظات مفصليَّة أخرى، لكنها ستكون أقل أهميَّة وأقل مركزيَّة في منظومته، ولن يتجاوز دورها ما تقوم به التغذية العكسية في "تقويم" المسار الذي ستتخذه التيارات والجيوب المختلفة ابتداء.
ولهذا، نرى أن الأولويَّة الآنيَّة المُلِحَّة، هي التأمُّل في المسار التاريخي الذي نخوضه ولحظته المفصلية، ومرتكزاتها المعرفيَّة والعرفانية (إن كان ثمة!) لمراجعة هذه المرتكزات وتطوير نظام فكري يُعبِّر عن مكابدة حقيقية للواقع، لا مُجرَّد أوهام نظرية جوفاء. فالأولويَّة عندنا هي تطوير وبلورة نظام فكري- حركي، بتأمُّل الحدث المباشر؛ وعدم تبديد الجهد في التعليق عليه، أو الانشغال بتأصيله (أو تقويضه) بصيغ وديباجات جاهزة لا تُسهم في تعزيز الإدراك، بقدر ما تحجب الفهم وتؤدلج الرؤية!
لذا، فربما كان من الملائم أن أسجل ملاحظتين على بعض السجالات الدائرة، بخصوص الأسئلة السالف ذكرها؛ علَّني أسهم في إعادة تقييم الإجابات النظريَّة التي يتسرَّع بعض المخلصين بمحاولة بثِّها بغير اختبار، بل وبثها أحيانا بشكل انفعالي، وفي صورة ردود فعل شخصية تمثل لا مُجرَّد تمرد على الواقع فحسب، وإنما تجاهُل كامل لحقيقته المركَّبة. ومن ثم، فهي تعبير عن استيعاب أصحابها الكامل في المنظومات الصلبة التي يرفضونها، وإن عبَّرت سلوكياتهم الرومانتيكية عن ذلك بمنظومات "ضد"؛ ليست سوى مقلوب ساذج بسيط لما يرفضون.
الملاحظة الأولى، هي أن أكثر الجيل يتعامَل مع الثورة (معرفيّا على الأقل) تعامُل أسلافه مع الدولة؛ فالثورة في وعيهم مقولة ميتافيزيقية تصدر عنها منظومة قيمية كاملة (أو "دين" بمصطلحنا). لذا؛ فرؤيتهم للثورة وللفعل "الثوري" (التاريخي- رؤية ميتافيزيقية، غير جدلية وغير تاريخية). صحيح أن لحظة التوهُّج الثوري لحظة ميتافيزيقية لها حرارة دينية، لكنها لحظة فردوسية قصيرة للغاية؛ يعود بعدها الإنسان لأثقال التاريخ. فالثورة ليست صيرورة ولا منظومة متعينة، ولا مصدرا للقيم؛ بل هي احتجاج على تعطُّل الصيرورة الإنسانية، ومحاولة لتقويم مسار التاريخ، وإصلاح المنظومة القيمية التي ابتعدت عن مصدرها؛ وضعيّا كان أم سماويّا.
فالثورة ليست قيمة بذاتها، لكنها محاولة لاستعادة القيمة الإنسانية. والثوريَّة الطفوليَّة الطوباوية تتوهَّم أن الإنسان قادر على توليد القيمة من لحظات سموه، وتتجاهل أن المطلوب أصلا من لحظات السمو هو النموذج التطبيقي لا القيمة؛ نموذج تمثُّل وتجسيد القيمة (الموجودة أصلا) لا القيمة ذاتها. لهذا، يمكن اعتبار الثورة، بكثير من التجوز؛ "شعيرة" دينية، لكنها أبدا ليست دينا إلا لأصحاب الرؤى السائلة، مثل بعض الأناركيين الرومانتيكيين.
إن الثورة، بوصفها "شعيرة دينية"؛ ليست لحظة احتجاج فقط على ما أسلفنا، لكنها أيضا لحظة كشف وانتباه. لحظة ينكشِف فيها الخلل، وليست لحظة لإصلاحه. ومن ثم، فقد يبدأ الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي بالثورة، لكن الثورة نفسها ليست إصلاحا، ولا تؤدي بالضرورة إلى الإصلاح؛ كما أنها ليست مصدرا للقيمة. قد تكون لحظة بَذْر، لكنها قطعا ليست لحظة جني للثمر، ناهيك عن أن تكون صيرورة ترعرُع.
وتصور الجيوب والأطياف الأيديولوجيَّة المختلفة للدولة قرين تصورهم للثورة، فمن يعتبر الثورة لحظة انتباه واحتجاج، بكل سموها؛ يرى أن الدولة ليست مُطلقا وليست سؤالا إنسانيّا ننشغل به انشغال روسو وهوبز ولوك، بل هي جزء من الصيرورة التاريخية التي تتشكَّل بالمكابدة الحيَّة على مقتضى القيمة التي تُنبهنا الثورة لافتقادها. بمعنى؛ أن رفض الدولة الحديثة أو قبولها، وتحديد شكلها، والاستعانة في ذلك بالتراث الإسلامي أو التراث الغربي؛ كل ذلك رهين مكابدة اجتماعية- قيمية حقيقية، ولا يمكن استباقه بشكل نظري أبدا، وكل ما نطرحه من نقد للدولة الحديثة، فإنما هو محاولة لتفكيك مركزيتها في الوعي، لكنه ليس رفضا نهائيّا لها بالضرورة؛ إذ الدولة في هذا التصور إفراز تاريخي، وأحد مجالات التجربة والخطأ؛ وليست منتجا نظريّا طوباويّا نهائيّا، إنها إفراز محتمل للمكابدة المتجددة. وكل مصادرة على الحياة بأطر نظرية، وَهْمٌ!
أما من يتعامل مع الثورة بوصفها صيرورة، أو مصدرا للقيم؛ فهو يسوقنا للجحيم من حيث يبشِّر بفردوسه الأرضي الموهوم، سواء أكان علمانيّا أو إسلاميّا مؤدلجا. فحين تمسي الثورة مصدرا للقيمة؛ تنحدر إلى أيديولوجيا صلبة، وتصير لحظة الاحتجاج السامية قيمة بذاتها وليست مجرَّد نموذج، وتمسي تلك الأيديولوجيا "بشارة" بطوبيا يسود فيها سلام فردوسي براني، غير جدلي وغير تاريخي؛ سلام يُتوهَّم إمكانه في طوبيا مستحيلة وغير إنسانيَّة. إنها رغبة في إيقاف الكبد، وإنهاء التاريخ بدولة- طوبيا يُراد لها أن تجعل من اللحظة النماذجية الإنسانيَّة القصيرة صيرورة دائمة. وهي رغبة معادية للإنسان رغم فرط إنسانيتها! إنها كتوهُّم تحويل لحظة القذف الجنسي العابرة إلى صيرورة لا نهاية لها!!
أما الملاحظة الثانية، فتتناول سؤال النهضة، أو "لماذا تأخر المسلمون وتقدّم غيرهم"؛ كما صاغه الأمير شكيب أرسلان قبل قرن تقريبا. وهو سؤال مركَّب مُعقَّد، قدر السهولة التي يُجيب بها بعضهم عليه! لكني لا أريد اختزال ملاحظتي في إجابة معينة أؤمن بها، بل في الإشارة لمُنطلقات بعض الإجابات المشتهرة، أو أشهر إجابتين منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وقد ولَّدت كل إجابة منهما تيارا كاملا؛ تبلور أحدهما حول مشروع مصطفى كامل، والآخر حول رؤية لطفي السيد، واطرد كل منهما بتجلياته الخاصة. وقد استدعت اللحظة الراهنة الإجابتين في ديباجات جديدة؛ فمن قائل بوجوب إهدار التراث كله، والسير في ركاب الغرب و"علومه"، كما كان طه حسين يرى؛ ومن قائل بوجوب الجمع بين استيعاب هذا التراث والإفادة من "علوم" الغرب الطبيعية والإنسانية.
وما يعنيني في هذا المقام أمران: أولهما؛ الرغبة المحمومة في إهدار التراث، التي لا أجد لها مبررا سوى العجز عن سبر غوره والتعامل معه. هذه الرغبة تتمسَّح أحيانا بالوحي، وهي ترفضه؛ لتُسقط التراث الذي دُوِّن على هامشه طيلة قرون. ولا تكمن المأساة في الاستهانة بهذا التراث، ولا في من يُسبِغون عليه أهمية تفوق أهميته الفعلية، وتتجاوز في روعهم الوحي الإلهي ذاته؛ بل تكمن فيمن يرى ألا دور له ولا قيمة على الإطلاق، وأنه لا يمكن الاستغناء عنه فحسب، بل وقراءة الواقع والتاريخ، واستشراف المستقبل؛ بدونه.. وهو وهم!
فإذا كنا نرفض اعتبار تراث أمة هو كل وجدانها، إذ الحياة لا تتطابق مع المدونات النصيَّة البشريَّة بطبيعة الحال، كما أن التدوين يقضي على الحياة في الغالب الأعم؛ فإن التراث يمثل أحد أهم مفاتيح فهم الشخصية الإنسانية وتطورها، وطبيعة حركتها التاريخية ومنحنياتها، لا لأنه متجسد في الواقع بالضرورة، أو ممكن التجسُّد؛ بل لأنه يشكل مكونا رئيسيا من مكونات التاريخ والواقع، سواء أكان ذلك بوعي أو بغير وعي. فكل تراث دوَّنته أمة قد شكَّل ويشكل وسيُشكل ليس مادة معرفية- تاريخية فحسب؛ بل أصول طرائق تفكيرها ومناهج نظرها ونمط حياتها أيضا. وإذا كُنا قد تُعبِّدنا بالوحي وحده، لنحاكم ما دونه إليه. وإذا افترضنا أن التراث المدوَّن على هامشه يمثل حجابا فعليّا يعوق تحرر الأمة؛ فإن الأزمة لا تكمُن في المادة المدونة بقدر ما تكمن في منهج التعامل معها (بدافع الكسل والعجز في كثير من الأحيان) بوصفها حكما له سلطة الوحي، رغم أنها منتج بشري أقصى ما يمكن أن يقدمه لنا هو الاسترشاد به.
أما الأمر الثاني؛ فمُتعلِّقٌ بصياغة سؤال "النهضة". إذ ما زلنا للأسف نجتر السؤال كما صيغ في أواخر القرن التاسع عشر، بغير وعي ولا إدراك. ومرجع ذلك جزئيّا إلى أننا ما زلنا أسرى الوهدة التاريخيَّة نفسها، إن لم يكن التدهور قد زاد وتفاقم على يد "الدولة الوطنية" ما بعد الكولونيالية؛ إضافة إلى عجزنا عن إعادة صياغة السؤال بسبب تعلُّق أبصارنا بالغرب، بغير رؤية نقديَّة (ناهيك عن حسن الاطلاع على التيارات النقدية في داخله)، وذلك رغم ما يصل إلينا عن أزمات الغرب العنيفة.
إذ صارت مفاهيم أمثال "التقدُّم" و"التأخُّر" مفاهيم إشكاليَّة في الغرب، وذلك كما لم تعُد مقولات مثل "الديمقراطية" و"التقنية" و"العلم" و"السوق الحر" مما يخلب لُب ذوي الرشد فيهم، وذلك منذ ستينيات القرن العشرين؛ أي إننا حتى في تقليدنا الساذج للغرب متأخرون عنه ما لا يقل عن نصف قرن! فالحركات الاحتجاجيَّة التي تبلورت في أوروبا وأمريكا، منذ الستينيات؛ قد قوَّضت كل المسلَّمات المفاهيمية الغربيَّة، وإن استمرَّ النظام الاستهلاكي العالمي بغير تغيير كبير، نظرا لقوته وللتدهور الإنساني العام الذي يحول دون تحديه. لكن بني جلدتنا ما زالوا رغم ذلك مُصرين على توهُّم الخلاص في مقولات مثل: "الديمقراطية" و"العلم" و"التقنية"، واعتبار "التقدُّم" و"الحداثة" حتميات أبديَّة. وهم في ذلك أبعد الناس لا عن العقل الصحيح فحسب، بل أبعدهم عن حُسن تقليد الغرب الذي فُتنوا به!
ولسنا هنا بصدد التفصيل في أمر التيارات النقديَّة التي حطَّمت أصنام "الديمقراطية" و"العلم" و"التقنية" و"التقدم"… إلخ، وإنما أردنا من هذه الإشارة السريعة التنبيه على حاجة السؤال نفسه إلى إعادة صياغة، سواء أكان ذلك من منطلق "تُراثي" أو حتى من مُنطلق "تغريبي"؛ وذلك في ضوء المعطيات التي تغيَّرت تغيرا جذريّا وكاملا على الأصعدة كافة.
لن تنتهي الأسئلة الملحة في مسيرتنا المتعثرة، إذا ما وفِّقنا لإجابة السؤالين السالفين؛ لكنَّ حدتها ستقِل كثيرا بعد إذ تتحدَّد مُنطلقات السؤال ووجهة الإجابة؛ إذ الاتفاق على المسلمات والبدهيَّات أولى خطوات الفلاح. ويحلو لي أن أوجز ذلك كله في عبارة واحدة: لا تستقيم وجهة مجتمعٍ إلا بعد أن يتفق صراحة على معبوده. وهذا ما زلنا نلتف حوله ونُداوِر، ونخشى الاعتراف به صراحة؛ منذ ما يقرُب من القرن!