محمد عمارة، الكاتب والمفكر المصري، نموذج فريد من نوعه في الساحة العربية والإسلامية الأوسع. لا يعود ذلك لغزارة كتاباته وتنوع عناوينه، التي غطت ساحات وتخصصات متعددة فحسب، بل للمسار الفكري الذي اختطه لنفسه ومنحه ملمحًا خاصًا وبصمة مميزة في المشهد الإسلامي.
بدأ محمد عمارة حياته الفكرية يساري التوجه قومي الهوى. لكنّ المثقف المتشبّع بالتراث الإسلامي والتقاليد الأزهرية العريقة، لم يفقد توازنه حتى في الحقبة اليسارية. فاليسار لم يعن له غير مناهضة الاستعمار والهيمنة الإمبريالية على مصير الأمة العربية ومقدراتها، والدفاع عن العدالة الاجتماعية ومصالح المهمّشين والمفقّرين.
أتاحت له صدمة السجن زمن عبد الناصر تأمّل مساره وتصويب بوصلته الفكرية، فدنا من التوجهات الإسلامية، دون تقيد ايديولوجي أو انتماء حصري واضح. فالإسلام ظل في عينيه مشروعا حضاريا، آمن به وتشبّع بقيمه الروحية والأخلاقية والسياسية.
والحقيقة أن محمد عمارة لم يغادر الساحة الإسلامية أصلا، حتى في حقبته اليسارية، ليقال إنه بات إسلاميا، بل انتقل من زاوية التأويل اليساري والاشتراكي للإسلام إلى الزاوية الإصلاحية الأزهرية للإسلام.
أتاحت له صدمة السجن زمن عبد الناصر تأمّل مساره وتصويب بوصلته الفكرية، فدنا من التوجهات الإسلامية، دون تقيد ايديولوجي
لم يكن انتقاله من المحطة اليسارية أو العروبية انعطافًا حادّا، بل تطوّرا ومراكمة، استوعبت السابق في اللاحق ضمن رؤية مركبة وشاملة.
كتب عمارة في قضايا شتى، وأغنى المكتبة العربية بما يربو عن سبعين عنوانًا. كتب عن المعتزلة والأشاعرة، وعن الغزالي وابن رشد، وعن ابن تيمية والشوكاني، وخير الدين التونسي وعلي عبد الرزاق، وعن الإصلاح الديني في المشرق والمغرب.
ساجل تيارات التشدد من العلمانيين والإسلاميين، ودافع عن قيم الحرية والعدالة، ووقف إلى جانب ثورات الشعوب، ورفض الانقلابات وحكم العسكر. ظل صامدا على مواقفه ولم يبدّل تبديلا، حتى حين دوّى الرصاص في ليل مصر وخيّم الخوف وفتحت السجون أبوابها على مصراعيها وانتصبت المشانق مجدّدا.
لم يعط الدنية في رأي أو موقف واحد، ولم يجامل أو يوال حكم القوة والبطش.
أهمية عمارة تكمن في تأسيسه مدرسة إسلامية متميزة، صاغ ملامحها ووضع إطارها العام، وفتحها على آفاق واسعة لم تستنفد أغراضها بعد، لتشكّل الاتجاه المستقبلي لحالة إسلامية مازالت تشكو أخلالا مزمنة في الوعي والممارسة.
تحرّك عمارة على خطين مترابطين، جعلا منه ظاهرة استثنائية:
1- أعاد وصل التيار الإسلامي الحركي والتنظيمي بالحركة الإصلاحية، بفضل جهده الجبّار في جمع وتحقيق ادبيات الاصلاحيين، من الأفغاني وعبده، إلى رشيد رضا والكواكبي وشكيب ارسلان وسعد زغلول وعبد العزيز الثعالبي.
وحين اتجهت الحالة الإسلامية، الواقعة تحت تاثير مشيخات النفط، نحو الفكر السلفي الشكلاني، بقي ثابتا على الخط الاصلاحي المستنير. بفكره وقلمه وجهاده السياسي، كان عمارة تلميذًا وفيًا أصيلًا لروّاد مدرسة الإصلاح الاسلامي، بعقل كبيرا كبر تراث آبائها العظامِ.
2- اتجه الإسلاميون إلى مناهضة القومية العربية، جرّاء الصدام المرير مع عبد الناصر، ووصل بهم الأمر حدّ اعتبار الرابطة العربية ضربًا من ضروب الجاهلية والخروج على الإسلام، كما فعل سيد قطب.
تصدّى عمارة لهذه النّزعة، مبيّنا عمق الصلة بين العروبة والإسلام، مؤكّدا أن العرب رافعة أساسية لنهوض الإسلام والمسلمين، ومدافعا عن فكرة الوحدة العربية في واقع التجزئة والوهن الذي يتخبط في أتونه العرب.
لم يعتبر العروبة فكرًا أو أيديولوجيا، بل رابطة سياسية ضرورية ضمن مشروع نهوض الإسلام الواسع.
القومية العربية عند عمارة، ببساطة، مشروع سياسي لوحدة العرب ونهضتهم، في إطار التكامل مع الجوار الإسلامي
وعمارة في هذا أيضا وفيّ للحركة الإصلاحية، التي أكدت على أهمية الرابطة العربية، وسعت لتخليص مشروعها من مخلّفات النزاع العربي التركي، الذي ظهر أواخر الدولة العثمانية، وكانت نتائجه وخيمة على العرب والترك على السواء.
القومية العربية عند عمارة، ببساطة، مشروع سياسي لوحدة العرب ونهضتهم، في إطار التكامل مع الجوار الإسلامي، لا انتماء عقديّ ايديولوجي، كما هي عند القوميين العرب.
بخلفيته الأزهرية وتكوينه الإسلامي المتين، وقف عمارة بجرأة في وجه التشدد الإسلامي الذي ارتفعت في مصر، مع بروز تيارات التطرف، كالتكفير والهجرة والجماعة الإسلامية، وقارع رموزهم بصلابة الحجة النصية والواقعية، منتصرا لمعاني الوسطية والاعتدال في فهم النصوص والواقع.
قاوم مشايخ الوهابية الرسمية، بفكره وقلمه ولسانه، مؤصّلا للتعدد المذهبي والتسامح الديني، وقيم الفن والجمال والحرية ورفض الحكم الفردي والشمولي.
وعلى الضفة المقابلة، ساجل رموز العدمية الحداثية، الذين سعوا جاهدين لتقويض كل ثوابت الدين والنصوص، ومناهضة كل ما له صلة بالإسلام والتراث الأزهري، وجادلهم بلا كلل او ملل.
ولعل هذا ما يفسر حساسية، بل عداء كل هؤلاء له ولاطروحاته.
عمل عمارة على تأصيل مفهوم السلفية، كما استقر عند زعماء الإصلاح، نبذا للجمود والتقليد، واعلاءًا لمبدأ الاجتهاد، وتأكيدا على ضرورة الاستفادة من كل ما ينفع الناس، أيا كان مأتاه.
كان مفكرا إسلاميا أصيلا، وحداثيا متبصرا في آن.
وقف عمارة خارج الحدود الأيديولوجية والتنظيمية، لكنه كان صاحب صولاتٍ وجولات في المحطات الحاسمة. ناصر ثورة 25 يناير دون تردد، عنوانًا لتحرر مصر والأمة العربية، وساهم في وضع الدستور الجديد.
وحين داست الدبابات على الصناديق وسالت الدماء في الشوارع انهارا، رفع صوته ضد الانقلاب وحكم العسكر الغاشم. ظل معتصما بقلمه، منافحا عن قيم الحرية والعدالة.
لكن عمارة، على جلال قدره وعمق فكره وثرائه لم ينل بعد ما يستحق من العناية والاهتمام، وهو الذي غطت أعماله مساحات شاسعة، امتدت من علم الكلام والفلسفة والأصول الى التاريخ والسياسة وعلم الاجتماع.
ونحن اليوم احوج ما يكون لهذا الفكر، الجامع بين التجذّر العميق في التراث، والوعي التاريخي المتّقد، والانفتاح على آفاق المستقبل..
رحم الله محمد عمارة، الفقيهَ واللغويَّ والمفكر والفيلسوف والسياسيَّ الأريب، وأسكنه جنان خلده.
عن محمد عمارة وهذا الحزن والقهر