توشك ثورة تونس على إكمال عقدها الأول بعد مرور ما يقارب عشر سنوات على أمّ ثورات الربيع العربي التي كانت فاتحة التغيرات التي تعرفها المنطقة ولا تزال أطوارها تتفاعل إلى اليوم. حققت الثورة على المستوى المحلي تغيرات كبيرة وتحولات عميقة في بنية الوعي وفي المشهد السياسي والاجتماعي لشعب تونس بمختلف مكوناته وأطيافه.
لا تقتصر هذه التحولات على المكاسب الفردية فيما يتعلق بمنظومة الحريات بشكل عام وأنماط التعبير المدني ككل، لكنها تتجلى أساسا على مستوى الممارسة السياسية التي تعبر عنها التشكيلات التي نشأت قبل الثورة أو بعدها. لكن رغم كل هذه المكاسب لا يزال المسار الانتقالي مترنحا لأسباب عديدة منها ما يتعلق بالمشهد الداخلي ومنه ما يحكمه السياق الخارجي بشقيه الإقليمي والدولي.
أزمة الانتقال الديمقراطي
من البديهيات التحليلية أنّ الانتقال من الطور الاستبدادي والحكم الفردي الشمولي إلى النظام الديمقراطي التعددي يعدّ أهم التحديات التي تواجهها التجارب الثورية مهما كانت طبيعتها ومنطلقاتها ومساراتها. أي أن الثورة ليست في الحقيقة إلا الجزء الأبسط من المسار الانتقالي، وليس أدلّ على ذلك من تعثر المسارات الانتقالية العربية في الدول التي تمكنت فيها الجماهير من إسقاط النظام لكنها عجزت عن تحويل المكاسب الثورية إلى فعل انتقالي يحول شعارات الثورة ومطالبها إلى مكسب اجتماعي وسياسي.
في ليبيا ومصر مثلا فشلت النخب السياسية خاصة في إنجاح مسارها الانتقالي وسقطت في الاحتراب والفوضى والتقاتل مما مكّن الدولة العميقة من العودة إلى المشهد من جديد عبر انقلاب الجيش في مصر وتهديد مليشيات حفتر للدولة المدنية في ليبيا.
إن الانتصار في معركة التنمية ومعركة النهوض بالمقدرة الشرائية للمواطن عبر تطوير القطاعات الاقتصادية وتحرير البلاد من هيمنة الشركات الأجنبية يمثل العنوان الوحيد لإعلان انتصار الثورة وقدرتها على تحرير الانسان.
أسباب كثيرة متداخلة تفسر هذا العجز والفشل في استثمار التحركات الشعبية الكبرى وتحويلها إلي مُنجز سياسي وحضاري صلب. لعل أبرز هاته الأسباب طبيعة الأرضية الثقافية والأخلاقية التي تربت عليها النخب العربية طيلة عقود من الحكم الاستبدادي، فالثورات الأخيرة كانت مفاجأة صادمة لنخب سياسية لم تكن تتوقعها ولا تتوقع حدوثها.
في تونس أمضت الأطياف السياسية المحلية عقودا من الزمن في الاحتراب الأيديولوجي بين التيارات الإسلامية واليسارية والقومية والليبرالية تحديدا فقدّمت هدف إثبات مرجعياتها الفكرية على كل المشاريع التي تسعى إلى تكوين جبهة موحَّدة وموحِّدة للفعل السياسي. تمكّن النظام القائم من تغذية هذه الصراعات ومن استثمارها في سبيل تحقيق قدر أقصى من الفُرقة والاحتراب بين مختلف الأطياف والمجاميع الفكرية والسياسية.
ترسخت هذه الصراعات بشكل جعلها تعود من جديد بعد الثورة بل وبشكل أكثر حدّة من ذي قبل وهو ما ساهم بشكل كبير في خلق حالة من الاحتقان التي عطلت كل مساعي التوافق الرامية إلى تسريع الانتقال الديمقراطي والخروج من دوامة الصراع الأيديولوجي.
من جهة أخرى يرى مراقبون أن هذا الاحتراب الفكري والسياسي هو جزء أصيل ملازم لكل عمليات الانتقال الديمقراطي وأنه مؤشر إيجابي على نشاط فعل الفرز السياسي الذي يسبق كل مسارات البناء السياسي التعددي. يبقى هذا
الرأي رأيا وجيها لكنه يظل مشروطا بتقدّم العملية السياسية وبمنع عودة النظام القديم وتفادي السقوط في الفوضى والصراعات المسلحة.
صحيح أن تونس نجحت في منع الانزلاق نحو الفوضى والصراعات المسلحة لأسباب عديدة منها ما يتعلق بطبيعة المجتمع التونسي نفسه أو بطبيعة القوى السياسية وتاريخ العلاقة بين المجتمع والسلطة في هذا البلد، لكنها لم تنجح في منع عودة النظام القديم من جهة وفي منع احتباس العملية السياسية من جهة ثانية.
بين شعارات الثورة وشعارات الأحزاب
مرت الثورة التونسية من الشعارات الأصيلة المطالبة بحرية والكرامة الوطنية والحق في التشغيل ومحاربة الفاسدين إلى شعارات حزبية رفعتها القوى الفاعلة في العملية السياسية التي تجري اليوم. تتراوح هذه الشعارات بين المطالبة بمدنية الدولة ومحاربة الإرهاب وتحرير فلسطين وغيرها من الشعارات التي لا علاقة لها بالثورة مطلقا.
لم تكن نفس هذه الأحزاب لتحلم بفضاء الحرية التي وفرته لها الثورة ولا كانت تطمح يوما إلى الجلوس تحت قبة برلمان الشعب بفضل دماء الشهداء من أبناء الطبقة المسحوقة الذين قدموا أرواحهم في سبيل انتصار الثورة وسقوط الطاغية. لكن نفس هذه الأحزاب لم توفر للشهداء ولا للثورة حدّا أدنى من المطالب التي رفعتها بل عمل أغلبها على رفع مطالبه الشخصية وشعاراته الأيديولوجية التي تلبي مصالح وأجندات القوى الداخلية والخارجية التي ارتبطت بها.
لكن رغم ذلك ورغم انكشاف المشهد الحزبي والسياسي التونسي أمام الرأي العام المحلي خاصة تُمعن القوى السياسية التونسية على الإيهام بالولاء للثورة خشية من العقاب الانتخابي الذي قد يعصف بمستقبلها السياسي في المناسبات الانتخابية القادمة.
إن تحول الخطاب السياسي من الشعارات التي رفعتها الثورة إلى شعارات الأحزاب السياسية يعدّ أحد أبرز المؤشرات على الانحراف الذي عرفه المسار الثوري. إذ يعدّ ذلك دليلا على انتقال الثورة إلى طور الغنيمة السياسية التي استأثرت بها النخب على اختلاف مشاربها ومقولاتها وهو الأمر الذي شكلّ أعظم معطل للمسار الانتقالي التونسي.
مآلات المسار الجديد
إذا فازت الحكومة الجديدة بتزكية مجلس نواب الشعب بعد سقوط حكومة السيد الحبيب الجملي فإنها ستواجه كمّا هائلا من التحديات التي خلفتها الحكومة السابقة وراءها. على رأس هذه الملفات يعدّ التحدي الاقتصادي أهم التحديات خاصة ما تعلق منه بمكافحة الفساد وتفكيك شبكاته التحتية التي تعدّ الوريث الشرعي للمنظومة القديمة.
فبعد تراجع أهمية الملفات الأمنية والتهديدات الإرهابية في السنوات الأخيرة صارت الاستحقاقات الاجتماعية المتعلقة بالتنمية وتوفير مواطن الشغل الهاجس الأساسي للتونسيين الذين لا يخفون تذمرهم من الحالة التي وصلت إليها التجاذبات السياسية في البلاد.
بناء على ما تقدم تكون المرحلة القادمة أكثر المراحل حساسية في عمر الثورة التونسية إذ يتراجع فيها المعطى السياسي والايديولوجي ليترك مكانه لصالح التحديات اليومية للمواطن وهي النقطة التي انطلقت لأجلها الثورة وطالبت بها. فليس الصراع في تونس مؤسسا على تحديات حزبية أو ايديولوجية كما توهم بذلك النخب التونسية بقدر ما هو قائم على صراع حول العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروات والتفاوت الجهوي والتنمية بشكل عام.
إن الانتصار في معركة التنمية ومعركة النهوض بالمقدرة الشرائية للمواطن عبر تطوير القطاعات الاقتصادية وتحرير البلاد من هيمنة الشركات الأجنبية يمثل العنوان الوحيد لإعلان انتصار الثورة وقدرتها على تحرير الانسان.