المعتدلون الذين يصابون بالهلع لإمكانية أن يصبح بيرني ساندرز المرشح «الديمقراطي» للانتخابات الرئاسية، لديهم بعض الأسباب الوجيهة للشعور بذلك، وفي مقدمتها خطر أن يعبّد الطريق لإعادة انتخاب الرئيس ترامب. وبهذا الخصوص أجدني واحدا من القلقين. غير أنه من الصعب ألا يشعر المرء بالاشمئزاز، جراء بعض المبالغات بشأن سيناتور ولاية فيرمونت وبرنامجه الانتخابي. فوفق كل من ترامب و«الديمقراطيين»، سيقوم ساندرز، حال فوزه بالانتخابات الرئاسية، بتحويل الولايات المتحدة إلى نسخة كبيرة لفنزويلا أو كوبا، مع مضاعفة تخلي ترامب عن الزعامة الأمريكية حول العالم.
بيد أن نظرة على خطابات ساندرز وتصريحاته خلال السنوات الأخيرة تقدّم صورة مختلفة، على الأقل في السياسة الخارجية. فالصورة التي تتشكل له هي صورة سياسي يتميز بمعارضته الشديدة للتدخلات العسكرية في الخارج، لكن أيضا بقناعة بضرورة قيام الولايات المتحدة بالممكن لدعم الديمقراطية ومقاومة الاستبداد. وهذا يميزه كثيرا، ليس عن ترامب فحسب، ولكن أيضا عن بعض المرشحين «الديمقراطيين» الذين يقدَّمون على أنهم معتدلون.
معظم التغطية الأخيرة لسجل ساندرز الدولي ركزت على الزيارة التي أداها للاتحاد السوفييتي قبل 32 عاما، غير أن هناك مرشدا ودليلا أحسن للتفكير الحقيقي للمرشح «الديمقراطي» في 2020، هو الخطاب الرسمي حول السياسة الخارجية الذي ألقاه في 2017 في فولتون (ميزوري)، موقع خطاب «الستار الحديدي» الذي ألقاه تشرشل. في ذاك الخطاب، كرّم ساندرز تشرتشل قائلا، إنه «يتفق بشدة» مع قولته الشهيرة من أن «الديمقراطية هي أسوأ شكل للحكومة، إذا قورنت مع كل الأشكال الأخرى». وبعد ذلك رسم الخطوط العريضة لدور عالمي للولايات المتحدة كـ«منتصرة» لـ«قيم الحرية والديمقراطية والعدالة».
وقال ساندرز، «إن هدفنا ليس تقوية الديمقراطية الأمريكية فحسب، وإنما العمل والتضامن مع أنصار الديمقراطية حول العالم».
لكن لسائل أن يسأل: وماذا عن الأنظمة غير الديمقراطية في كوبا وفنزويلا ونيكاراغوا، التي كثيرا ما يُتهم ساندرز بدعمها؟ صحيح أنه كان أكثر تساهلا معها؛ ففي الثمانينيات، وعلى غرار كثير من الليبراليين الأمريكيين (جون كيري يقفز إلى الذهن)، كان يفضل حكومة «ساندينيستا» في نيكاراغوا على متمردي الـ«كونترا» المدعومين من الولايات المتحدة.
غير أن موقف ساندرز واضح الآن من الزعيم الفنزويلي نيكولاس مادورو، الذي وصفه بـم«الطاغية الشرير» العام الماضي. وبخصوص زعيم نيكاراغوا (دانييل أورتيغا)، فقد قال عنه في كانون الأول/ديسمبر الماضي، إنه «أصبح ديكتاتورا، وهذا أمر مؤسف». وعن كوبا قال إنه يأمل أن «تتجه نحو مجتمع أكثر ديمقراطية».
أما بالنسبة للاتحاد السوفييتي السابق، فقال لصحيفة «نيويورك تايمز»: «كان ديكتاتورية مستبدة، هذا ما كنت أعتقده وقتئذ، وهذا ما أعتقده اليوم».
إن السبب وراء لغة ساندرز الفضفاضة وغير الواضحة، بشأن بعض الأنظمة، هو معارضته الشديدة للتدخلات العسكرية الأمريكية في الخارج، إضافة إلى عمليات أخرى تهدف لتغيير النظم. ففي خطاب فولتون، ندد ساندرز بالدعم الأمريكي لانقلابين في إيران عام 1953 وفي الشيلي عام 1973، إلى جانب الحرب في العراق. وقال: «في مرات كثيرة جدا، أنتج التدخل العسكري الأمريكي نتائج عكسية غير مقصودة، تسببت في ضرر كبير».
ومرة أخرى، فإن موقف ساندرز لا يختلف كثيرا عن موقف ليبراليين آخرين من أبناء جيله، والنتيجة المحتملة رفض إرسال قوات قوات عسكرية أمريكية إلى بلدان أخرى، لا تميزه عن المرشحين «الديمقراطيين» الآخرين، أو عن ترامب (حتى الآن). ومن جهة أخرى، يذكر بأن ساندرز يقول بالفعل إن القوة العسكرية ضرورية أحيانا، وإن الإرهاب يظل تهديدا. كما أنه يدعم حلف «الناتو»، وندد بترامب لسحبه الجنود الأمريكيين من شمال سوريا على حساب الأكراد الذين حاربوا «داعش».
ولا شك أن ساندرز، إن أصبح رئيسا، سيسبب بعض حرقة المعدة لمؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية. فهو من أنصار الحمائية في التجارة، رغم أنه لن يسير على خطى ترامب في استخدام الرسوم الجمركية كسلاح سياسي، ويريد تقليص الإنفاق على الدفاع بشكل مهم. لكنه سيحاول إصلاح الضرر الذي ألحقه ترامب بتحالفات الولايات المتحدة وإعادة إحياء المبادرات متعددة الأطراف، مثل التحرك بشأن تغير المناخ.
لكن الأهم من كل هذا، إذا صدّقنا خطابه، أن ساندرز سيعيد الولايات المتحدة إلى صف الديمقراطية العالمية وحقوق الإنسان، في وقت تحتاج فيه هاتان القضيتان للدعم بشكل كبير جدا. فهل ينوي الديمقراطيون الآخرون فعل هذه الأشياء مثله؟ الواقع أنهم لم يؤكدوا ذلك.
(الاتحاد الإماراتية)