بحكم غلبة المطلب السياسي المباشر والهواجس الأيديولوجية الضمنية أو الصريحة، تميل أغلب القراءات للوضع
التونسي إلى الشخصنة وإلى الاهتمام بالجزئيات. وهي لذلك لا تهتم ببنية الحقل السياسي ذاته وبطبيعة المحددات الأكثر تأثيرا في مخرجاته منذ الثورة التونسية. ونحن في هذا المقال سنضرب صفحا عن هذه المقاربات "الكسولة" التي تهدف أساسا إلى التأثير في الرأي العام وتوجيهه؛ دون أن تطرح على أنفسها تفكيك المشهد السياسي والبحث في الأسباب العميقة لأزماته الدورية التي لا يبدو أن تشكيل الحكومة القادمة (مهما كانت أطرافها) ستخرجنا منها. وسنحاول أن نطرح جملة من الفرضيات التي نرى أنها تحيط بأهم العوائق الحائلة دون بناء حكومة قادرة على تحقيق وعودها حتى في حدها الأدنى.
رغم أن نجاح رئيس الوزراء المكلف في تشكيل الحكومة قبل نهاية الأجل الدستوري هو رسالة طمأنة للرأي العام، ورغم أن هذا النجاح هو أيضا مؤشر على الدخول في مرحلة جديدة من الاستقرار السياسي الذي سيغير من موازين القوى بين الرئاسات الثلاث، فإن سقف التفاؤل عند التونسيين يظل منخفضا بحكم حدسهم بصعوبة أن تحقق لهم هذه الحكومة انتظاراتهم المشروعة بعيدا عن الصراعات الأيديولوجية واللوبيات المتنفذة في السلطة من وراء ستار. وبصرف النظر عما يخترق هذه الحكومة من تناقضات داخلية ومن انعدام الثقة المتبادل بين مختلف مكوناتها من جهة، وبين تلك المكونات ورئاسة الجمهورية من جهة ثانية، فإننا نرى أن العجز الجوهري الذي سيحكم هذه الحكومة مردود إلى عوائق أعمق من العوائق السياقية. ولعل من أهم تلك العوائق ما يلي:
- العائق الأول: وهو التحرك في إطار الخيارات الكبرى للمنظومة القديمة وعدم امتلاك بديل "مجتمعي" متكامل. فكل المتصارعين والمزايدين بالطهورية وبالوفاء لاستحقاقات الثورة يتحركون تحت سقف إصلاحي واحد هدفه تصحيح مواطن الخلل في المنظومة القديمة، لا تجاوز تلك المنظومة جذريا. فنحن لم نر أي طرف (بمن فيهم أولئك المنتمين إلى اليسار الاجتماعي) يدعو إلى منوال تنموي جديد أو إلى تغيير منطق التبادل اللامتكافئ مع الغرب اقتصاديا وثقافيا، كما لم نر أي طرف فاعل في التشكيلة الحكومية المقترحة يدعو إلى مراجعة العلاقة مع الشركاء الاجتماعيين وتحديد مسؤولياتهم داخل منظومة الفساد (أي مسؤولية اتحاد الأعراف في مستوى التهرب الضريبي، ومسؤولية اتحاد الشغل في مستوى الفساد الإداري المستقوي بالنقابات).
- العائق الثاني: وهو غياب سردية جديدة لبناء الجمهورية الثانية تكون محل تفاوض جماعي يستأنف التفكير في المشترك الوطني، أو في الكلمة السواء خارج الأساطير المؤسسة لما يُسمّى بـ"النمط المجتمعي التونسي". ولا شك في أن عجز العقل السياسي الثوري أو الإصلاحي عن القطع مع السردية المؤسسة للجمهورية الأولى لا يعكس نقصا في الخيال السياسي، بقدر ما يعكس قوة المنظومة القديمة وقدرتها على جر الجميع إلى ما يؤسسها في المستوى الرمزي والمخيالي، بل في مستوى شرعنة المصالح والامتيازات المادية للنواة الصلبة للمنظومة القديمة ومكوّناتها الجهوية والمالية والزبونية المتنفذة.
- العائق الثالث: وهو عدم القدرة على الحكم دون ورثة المنظومة القديمة وحلفائها من "الشركاء الاجتماعيين". ولعل أكبر تعبير عن هذه الحاجة للقوى المسيطرة على الحكم من خارج أجهزته الرسمية هو استدعاء الرئيس قيس سعيد نفسه لمنظمة الأعراف وللنقابة في صورة تستعيد ما فعله هؤلاء وغيرهم في نهاية حكم الترويكا ودورهم المشبوه في إعادة الحكم للمنظومة القديمة تحت شعار الكفاءات الوطنية والمستقلين والوحدة الوطنية. فمحصول القول أن جميع القوى التي تنتسب إلى "الثورة" تتفق على ضرورة تشريك بعض مكوّنات المنظومة القديمة وواجهاتها الحزبية التي ينتمي أغلبها إلى شقوق نداء تونس بعد انفجاره إلى أكثر من حزب.
- العائق الرابع: وهو العجز عن تجاوز الصراعات الهووية التي تحرف الأنظار عن مدارات الصراع الحقيقية في مستوى الخيارات الكبرى التي انبنت عليها "الدولة الوطنية"، وكذلك العجز عن المساءلة النقدية لمحصول تلك الخيارات واقعيا، أي بعيدا عن الادعاءات الذاتية والاستقواء بأجهزة الدولة وبالقوى الخارجية. فأغلب الصراعات تدار بمفردات الهوية وبثنائية أساسية مبنية على تناظر لا متكافئ (حسب تعبير جاك دريدا) بين العائلة
الديمقراطية والإسلاميين. فكأن الإسلاميين رغم الثورة ما زالوا (كما قال جاك دريدا أيضا في سياق آخر) هم "الخارج المطلق" الذي تتعرف الجماعة "الحداثية" على نفسها بالتقابل الجذري والنهائي معه.
- العائق الخامس: وهو محصول العوائق المتقدمة جميعا ويتمثل في عدم وجود أي "تسوية تاريخية" أو "كتلة تاريخية" تنهض بمهمة بناء مقومات السيادة، والتخلص من الارتهان للخارج وللمحاور الإقليمية التي لا يخفى تأثيرها في اختيار الوزراء أنفسهم، بل في تحديد توجهات الدولة داخليا وخارجيا.. فهدف الفاعلين السياسيين (رغم كل ادعاءاتهم وسردياتهم الكبرى) هو تأبيد تناقضاتهم والاستثمار الانتخابي فيها، ولم يكن هدفهم يوما العمل "معا" لتحقيق مقوّمات السيادة وتحرير الإنسان والكيان، بقدر ما كان إدارة اليومي ضمن الشروط الموروثة من المنظومة القديمة ودون التصادم مع نواتها الصلبة.
مهما كانت تشكيلة الحكومة فإن سقف تحركها المشروط بطبيعة القوى المهيمنة على الواقع وطبيعة العلاقة بين مكوناتها، مع غياب أي فهم موحّد لمعنى مقاومة الفساد (بل غياب الثقة المتبادلة المؤسسة لمبدأ التضامن الحكومي)، سيجعل منها تعبيرا عن لحظة "توافقية" جديدة، وسيحول دون تحقيق أي وعد يتجاوز إدارة الأزمة والتخفيف قليلا من مؤشراتها القابلة للتكميم (أي المؤشرات الكمية)، وستكون الحكومة المنتظرة عاجزة لا محالة عن تجاوز الأزمة البنيوية للحقل السياسي بحكم غياب الشروط الضرورية لتحقيق ذلك.