في مشهد مؤثر تعتصر له القلوب الحية، تلفظ
الحيتان أنفاسها الأخيرة على شواطئ المحيطات أو البحار، في توقيت شبه متكرر من كل
عام. ولا ينسى العالم ذلك المشهد الدامي في شباط/ فبراير من عام 2017، حين جنح 400
حوت على شواطئ نيوزلندا في ظاهرة انتحار جماعي للحيتان. وعلى الرغم من امتلاك
الحيتان لجهاز ملاحي هو الأفضل بين الكائنات البحرية، إلا أن عمليات جنوحها لا
تكون إلا للتخلص من ظروف دفعتها إلى هذا المصير المؤلم.
في الذكرى الأولى لثورة يناير لم نرَ في الإعلام
الذي كان يسيطر عليه المجلس العسكري (والذي هو بالأساس إعلام النظام البائد) الوجوه
الحقيقية للثورة، سواء التي قادت أو التي شاركت.. لم نر وجوها دفعت دفعا أو لمعت
تلميعا لتتصدر المشهد، ولا أنسى ذلك الشاب الذي جلس في الجانب الأيمن من شاشة قناة
الجزيرة ويضع قدما على قدم في وجه مشاهديه؛ يتكلم عن
الثورة والحرية، التي تعني في
مفهومه مرادفا للفوضى. لم تكن هذه الظاهرة إلا إحدى الطرق المدروسة لتكفير الناس
بالثورة، وكان السؤال الذي يطاردني: أين الثوار الحقيقيون؟
لقد انتحر الثوار الحقيقيون معنويا، بعد أن بدا لهم
أن المشهد أعقد مما ظنوا، فآثروا الانسحاب، لكن بقايا من الثوار ظلوا يناضلون ويقاومون،
متمسكين بتلك المبادئ التي نزلوا وتعرضوا للاعتقال أو التعذيب أو القتل كي تعلو
تلك القيم، وفارقوا أحبابهم ودفنوا أصحابهم وأكملوا. وبقيت الظاهرة تتكرر كما
يتكرر انتحار الحيتان في كل عام، وأصبح شهر كانون الثاني/ يناير موسما تتناقل فيها
مواقع الأخبار وشاشات التلفاز أنباء الانتحار المعنوي، التي في الغالب يسبقها
تناحر لفظي وتخوين.
لكن لماذا ينتحر الثوار الحقيقيون؟
تزرع
الحصانة من الصغر في التربية الأسرية لتحقيق رقابة ذاتية لتعديل الانحراف أولا
بأول، فلا يميل الفرد بمثيرات أو مغريات مهما كانت، فتمثل تلك الحصانة رقيبا ورادعا
وحسيبا داخليا تضبط البوصلة وتهدي الطريق، ولما كانت ثورتنا وليدة ويراد لها
عناية، لا سيما في ظل هذا المناخ الفاسد والبيئة غير الصالحة لنمو القيم، كان
لزاما أن نعتني بزرعتنا، وتثبيت قيم ثورتنا التي وجدت قبولا من شعب يملك بين
جنباته كرموسوم الحضارة، ويريد أن يعيش بين الكبار، فهو لا تنقصه مقومات الكبار
لكن تنقصه المشاريع التي تستفيد من طاقاته الكامنة وعبقرياته المدفونة، كما يحتاج
لقيادة واعية تعرف كيف توظف الموارد والطاقات، وتتعلم من التجارب وتدفع للمستقبل.
الآن
وبعد مرور تسع سنوات من الثورة، علينا أن نقف مليا وننظر أين صرنا وكيف كانت تلك
الصيرورة.. علينا أن نحاسب أنفسنا، لكننا في نفس الوقت لا ينبغي أن نجلد أنفسنا..
علينا أن نطهر الصف الثوري، لكن في نفس الوقت يجب أن لا نفضح من أخطأ،
علينا أن يعذر بعضنا بعضا، لكن في نفس الوقت لا يجب أن يخون بعضنا بعضا، علينا أن
نعود لمعركتنا الحقيقية، معركة القيم والتوعية بها، فالفساد لا يعيش إلا في
البيئات العفنة، فإذا ما أجرينا الماء ذهب الدرن، وماء ثورتنا وسر بقائها..
المبادئ، العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، هي سر بقاء
ثورتنا في التعايش والإخاء وقبول الآخر وعدم التخوين والعمل من أجل هذا الوطن، لا
من أجل أجنداتنا ولا مشاريعنا الخاصة.
في
موسم انتحار الثوار.. أقول انتحر كما شئت وانسحب كما تريد، قد تكون الرياح قوية
والموجة عالية لكن ثورتنا لا ترضى بالضعفاء لأن العدو قوي، لا شك، فالمعركة كبيرة
والخدع لا تتوقف، والمكائد مستمرة، وتحتاج القوي الأمين الفطن الذكي الذي قرأ
المشهد ويعرف كيف يتعامل معه، فهم أهله وماذا يريدون قبل أن يفهم عدوه وماذا
يخططون.
ستبقى
الثورة وسيبقى الأحرار، وستقوم
مصر من كبوتها وستنهض من سباتها، وسينتصر الأحرار
طالما عقدوا العزم على الثبات، والتمسك بعهدهم وقيميهم، غير ملتفتين لمن عاد أو ضل
أو باع أو فُتن، فاقتلوا أنفسكم كما شئتم، فالثورة باقية.