في الحادي والعشرين من ديسمبر 1989 وقف الدكتاتور الروماني نيقولاي تشاوشيسكو يلقي خطابا أمام 100 ألف مواطن.
شأن طغاة كثيرين، لم يخطر بباله أن هذا الجسد البشري الهائل، الواقف أمامه، قادر على أن ينتفض في لحظة، مثلما حدث في تلك الظهيرة. تهاوت القبضة البوليسية الحديدية، اندلعت الثورة كالنار، وملأت الجموع الشوارع. تخلت نخبة تشاوشيسكو عنه، فحاكمته هو وزوجته وأعدمتهما رمياً بالرصاص في مقطع مصوّر، ذائع على شبكة الإنترنت.
سقط النظام الشيوعي في رومانيا. ومعه سقط القمع الذي يبدو لنا الآن شديد الغرابة. كان كل شيء مفروضا على الشعب، بداية من أنماط البناء وألوان واجهات المباني، مرورا بأنواع الملابس والأطعمة، وانتهاء بما تنشره الصحف وما يبثه التلفاز من أكاذيب عن الزعيم العظيم ونظامه السياسي.
في تلك الفترة سقط جدار برلين. كان واضحا أن الشعوب القابعة تحت نير الأنظمة الشيوعية تتوق إلى أن تعيش حياة كالتي يعيشها البشر في الدول الأخرى. ثمة حكايات وصور طريفة عن الزحام الهائل أمام فروع ماكدونالدز الجديدة في الدول التي تحررت من قبضة الأنظمة الشيوعية. أراد الكثيرون أن يذوقوا الطعام الذي ينعم به الغربيون، وكذلك الطعام والملابس والسينما التي عرفوا أنها تتطور في العالم الخارجي، بينما هم قابعون في الظلام.
يرى كثيرون أن شابة رومانية، هي إيرينا نستور، لعبت دورا مهما في نقل السينما العالمية للشعب الروماني بكل ما مثّلته تلك السينما من مفردات الحياة اليومية وتفاصيلها التي يحلم بها الشعب الروماني. قد يبدو ذلك الآن بسيطا للغاية. ففي أي مكان من العالم، يستطيع أي طفل الدخول إلى شبكة الإنترنت، ومعرفة آخر الأخبار عن أي شأن في أية دولة، لكنّ الأمر لم يكن كذلك في رومانيا تشاوشيسكو. لم يكن مسموحا للشعب بمعرفة ما يحدث في العالم، لكن الشابة إيرينا تمكنت من كسر تلك القبضة الحديدية، من قلب منظومة القمع ذاتها، وهذا هو الأغرب.
ولدت إيرينا مارجريتا نستور سنة 1957. وبدأت سنة 1980 العمل مترجمة في هيئة الرقابة. كانت مهمتها ترجمة الأفلام حتى يحدد الرقيب ما يتم قصّه منها. حكت نستور أن الرقابة كانت تقص المشاهد التي تظهر فيها كنائس أو مظاهر ترف من التي يحلم بها الشعب الروماني مثل المنازل الواسعة والطعام الشهي وحمامات السباحة! قبل عصر الإنترنت كان ذلك الجنون واقعا يوميا. الزعيم لا يسمح للشعب بأن "تزوغ" عينه إلى تلك المحرمات، التي يغرق هو فيها، وحاشيته.
لكنّ الفساد ملمح طاغٍ على الأنظمة الشمولية. لذلك، وجد بعض كبار ضباط تشاوشيسكو فرصة سانحة في التعاون مع مهرب من نوع خاص، هو تيودور زامفير، الذي تخصّص في نسج شبكة واسعة لتهريب شرائط فيديو تحتوي على أفلام أمريكية مهربة، ودون قص ولا اقتطاع. وما دام الشعب الروماني مفتونا بمعرفة الجديد عن العالم الخارجي، وما دامت السينما الأمريكية ذات سحر خاص، فقد كانت شبكة تهريب الأفلام تتوسع وتمتد عبر رومانيا، وكانت العائلات والأصدقاء تتجمّع سراً في منزل يحتوي على جهاز فيديو. كانت السهرة تتكون من فيلم أمريكي جديد مهرب. وخوفا من الآذان الكثيرة المنتشرة للوشاية بمن يخرج عن النص، كان الجميع حريصا على عقد سهراتهم في سرية تامة.
كانت الشرطة الرومانية، الساهرة على أمن الوطن، تتعقب أصحاب الفيديو لتعتقلهم وتصادر الثروة التي يخفونها: جهاز التلفاز والفيديو وبضعة أشرطة لأفلام أمريكية. كانت تلك الأجهزة المهربة تعدل ثروة حقيقية.
المبهر فيما تفعله نستور لم يكن ما تترجمه فقط، بل ما تقوم به من أداءٍ صوتيٍ، باللغة الرومانية، لجميع ممثلي الفيلم؛ رجالا ونساء وأطفالا أيضا. فلم يكن المهرب زامفير قادرا على إشراك أعداد أكبر في جريمته البديعة تلك. هذا هو التحدي الذي كان تجاوزه بوابة النجومية لنستور؛ فقد كانت تؤدي أصوات الممثلين جميعا، في مواقف الفيلم كلها، بما تحتويه من تنوع معقد لحالات الحب والفرح والغضب والحزن.
يا لها من فنانة قديرة، تلك التي أقنعت شعبا كاملا بترجمتها وأدائها الصوتي لنخبة ممثلي هوليود، حتى إنها كانت تؤدي أصوات شوازنيجر وسلفستر ستالون، في مشاهد الأكشن.
في الفيلم الوثائقي البديع "تشاك نوريس ضد الشيوعية"، الذي صدر سنة 2015 ويُعرض على نتفليكس، نرى كيف استحوذ صوت نستور على قسم كبير من ذكريات الشعب الروماني وأحلامه في الثمانينيات. فبعد أداء الدوبلاج لأكثر من 3000 فيلم مهرب، فتحت نستور لشعبها نافذة هائلة يشاهدون منها ذلك المستقبل – الحلم، الذي حبسهم النظام السياسي بعيدا عنه.
كان كل ذلك يتم في سرية، وعلى نحو يشبه أعمال العصابات، فالجميع حريص، يقظ، حتى لا تطوله يد البطش. كان الشعب يعرف صوت نستور دون صورتها.
ربما كان الدليل الأكبر على هيمنة نستور على قلوب الجماهير أن خلافا وقع بينها وبين زامفير، قائد عمليات التهريب، فاستبدل بها غيرها حتى يستمر العمل، فرفض الجمهور شراء نسخ الأفلام، مصرّين على شراء النسخ التي تؤدي فيها نستور عملية الدوبلاج الصوتي، مرغمين زامفير بذلك على إعادتها إلى العمل.
تبدو هذه حالة نادرة من تمسّك الجمهور بنجمة لا يعرف شخصيتها الحقيقية ولا حتى صورتها الفوتوغرافية.
بعد الثورة على تشاوشيسكو، أصبحت نستور ناقدة سينمائية ومنتجة برامج وناشطة في مجال صناعة الأفلام في رومانيا.