تبدو
المستجدات الأخيرة في
العراق لافتة جداً ومعبرة عن المشهد الراهن في البلد بشكل
عام. كانت قد بدأت أواخر كانون الأول/ ديسمبر الماضي، مع أول هجوم مميت بعد عشر
محاولات فاشلة للحشد الشعبي المفترض أنه يتبع الجيش العراقي؛ ضد معسكر للجيش نفسه
في مدينة كركوك يضم قوات أمريكية أيضاً، ما أوقع قتيلاً أمريكياً ومصابين آخرين،
أمريكيين وعراقيين، فردت أمريكا بقصف خمسة مواقع للحشد الشعبي في العراق وسوريا،
أوقع بدوره عشرات القتلى والمصابين، بينما ردّ الحشد (مع أنه جهة رسمية) بمحاولة
اقتحام السفارة الأمريكية ببغداد، ما دفع واشنطن إلى تهديد
إيران والطبقة السياسية
العراقية برمتها والتي نأت بنفسها عن الإقتحام، ثم أرسلت قوات إضافية من مشاة
البحرية "المارينز" لحماية السفارة، بعد قطع الكهرباء عن المنطقة
الخضراء في العاصمة العراقية، التي تضم كذلك مؤسسات محلية وأجنبية أخرى، وصولاً
إلى اغتيال قاسم
سليماني نفسه مطلع الشهر الحالي بسهولة بالغة، ثم الرد الإيراني
الهزيل الخجول الذي أظهر تمسكه بالمشهد الراهن دون رغبة (أو قدرة) على كسره أو
تغييره.
لا
شك في أن التفاصيل والمعطيات السابقة لافتة ومعبرة ومثيرة للاهتمام، لكن لا يمكن
تحليلها أو قراءتها دون أخذ محددات تاريخية ومنهحية بعين الاعتبار.
أهم
هذه المحددات يتمثل بكون العراق محتلا بشكل مزدوج من قبل أمريكا وإيران، علماً أن
الثانية كانت قد استجلبت الأولى عبر عملائها (إيران) وأدواتها لاحتلال البلد
وإسقاط نظام صدام حسين المعادي لها. وبعد الانسحاب الأمريكي جرى ما يشبه التقاسم
الوظيفي عبر اتفاقية أمنية (2008) تضمنت إقامة قواعد عسكرية أمريكية. وعملياً
أصبحت واشنطن بمثابة القوة الكبرى القائمة بالاحتلال الاستراتيجي، وطهران الشريك
الصغير الذي يقوم بالاحتلال اليومي الجاري مع هيمنة تامة على الطبقة السياسية
وفتات الاقتصاد المدمر، بعد سيطرة أمريكا على قطاع النفط، وضمان تبعية الجيش
والبلد كله عبر عقود تسليح بمليارات الدولارات مع الشركات الأمريكية.
اللافت
هنا أيضاً أننا بتنا أمام مشهد مماثل تماماً للمشهد السوري، حيث روسيا القوة
الكبرى القائمة بالاحتلال، وإيران الشريك الصغير (مع حشدها الشعبي) الذي يستفيد من
الفتات الاقتصادي رغم أنها هي من استنجدت بروسيا لاحتلال البلد.
إلى
ذلك ثمة سردية أو رواية عن الحشد الشعبي لا بد أن تروى. فبعد فشل الطبقة الحاكمة
المدعومة من إيران، بل المدارة إيرانياً على كل المستويات السياسية والاقتصادية
والاجتماعية والأمنية، اندلعت انتفاضة ضدها (2013) في الموصل ومحيطها، مستلهمة روح
الشارع العربي الثائر، ومع احتدام الثورة السورية ووصول نظام الأسد إلى حافة
الهاوية، رسمت إيران سيناريو تنظيم داعش بالتعاون مع أداتها نوري المالكي دون
ممانعة من أمريكا، حيث سلّم المالكي الموصل (2014) جهاراً نهاراً للتنظيم، وكانت
الطريق مفتوحة أمامه لبغداد لولا تدخل أمريكا وتأسيس التحالف الدولي ضد داعش، ثم
تأسيس الحشد الشعبي لخوض المعركة البرية ضد داعش، تماماً كما كان الحال مع "بي
كا كا" في سوريا وترويج معادلة الأسد أو داعش، التي تم استنساخها في العراق
عبر معادلة الطبقة السياسية نفسها (رهينة الاحتلالين) أو التنظيم الإرهابي.
مثّل
الحشد الشعبي الأداة البرية للتحالف الأمريكي، وارتكب جرائم حرب موصوفة ضد الموصل
وأهلها، وبعد انتهاء المعركة وهزيمة داعش لم يجر حلّه، بل تدخلت إيران لشرعنته ضمن
الجيش العراقي بنفس الذهنية والأشخاص، وحتى الاسم، وبات يتصرف بشكل مستقل تماماً،
وتحول عملياً إلى النسخة العراقية من الحرس الثوري الإيراني، حيث الهيمنة على
القرار الوطني العام دون تحمل مسؤولية سياسية أمام الشعب والعالم. وإذا كان نوري
المالكي بالمعنى العام يشبه أحمدي نجاد، فإن عادل عبد المهدي يبدو أقرب إلى حسن
روحاني، والمفارقة أن كل ذلك يجري تحت وصاية الاحتلال الأمريكي.
وليس
ذلك فحسب، بل إن إمبرارطورية الدم والوهم الفارسية التي عاصمتها بغداد؛ هي في
الواقع رهينة وأسيرة للاحتلال الأجنبي في العراق وسوريا، وعندما تم رفع الغطاء
الجوى عنها باتت مكشوفة أمام ضربات الاحتلال الإسرائيلي في سوريا والعراق.
إثر
هروب إيراني جزئي من سوريا إلى العراق العام الماضي انتقلت الغارات الإسرائيلية
إليه، وتم استهداف مواقع للحشد الشعبي (آب/ أغسطس الماضي) ضمن معسكرات للجيش
العراقي احتوت صواريخ مخزنة أو "أمانة" من دولة جارة، كما قال بهاء
الأعرجي، نائب رئيس الوزراء السابق وأحد المسؤولين السياسيين في التيار الصدري.
هذا جرى طبعاً دون علم أو قرار رسمي من الحكومة الشرعية، والتي يتصرف معها الحشد
تماماً كما يتصرف الحرس مع حسن روحاني.
اختلف
التعاطي الأمريكي مع إيران العام الماضي، بعد تحقيق الأهداف الموكلة لها بتدمير
العالم العربي، أو لأنها تصرفت بعكس روح الاتفاق النووي. الاختلاف أدى لفرض عقوبات
اقتصادية أمريكية صارمة ضد طهران أضعفتها نسبياً في الداخل والخارج، فاندلعت
التظاهرات الشعبية ضد الاحتلال الإيراني في العراق ولبنان، وحتى ضد المنظومة
السلطوية في إيران نفسها.
هنا
نعود إلى التطورات والمستجدات الأخيرة في العراق، مع محاولة الحشد شيطنة الحراك
الشعبي وحتى اتهامه بالعمالة لأمريكا من قبل سياسيين عادوا إلى بلادهم على ظهور
الدبابات الأمريكية، ومن قبل طبقة هي أصلاً جزء من التركيبة التي أنتجها الاحتلال
الأمريكي.
بعد
فشل الحشد في إنهاء الحراك رغم قتل مئات المتظاهرين، واغتيال عشرات الناشطين،
واستيراد قنابل حارقة ممنوعة من إيران لاستخدامها ضد المتظاهرين السلميين (كما
أقرّ وزير الدفاع العراقي نجاح الشمري في 23 تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي)، عمد
الحشد للهروب إلى الأمام عبر قصف القواعد الأمريكية، ثم اقتحام السفارة، أما الهدف
عن حق، وكما قال السيد مقتدى الصدر، فيتمثل بإفشال الحراك السلمي عبر فوضى أمنية
عارمة.
أمريكا
ردّت بقوة عبر هجمات ساحقة ضد مواقع للحشد في العراق وسوريا، فحاولت إيران الردّ
عبر اقتحام السفارة في سيناريو سعى أساساً إلى تكرار حادثة السفارة الأمريكية في
طهران 1979، كما قال أحد قادة الحشد أبو ولاء الولائي، لكن قتل سليماني، ثم رفع
السقف والتهديد الأمريكي باستهداف أزلامه وأدواته ورفض الطبقة السياسية العراقية (غالبيتها)
التي خشيت على مصالحها، رغم عراضة المجلس النيابي المطالبة بالانسحاب الأمريكي، ثم
فهم إيران أن الطبقة العميلة لها مرتبطة أساساً بوجود الاحتلال الأمريكي
الاستراتيجي، كل ذلك أدى للتراجع وفضّ الاعتصام أمام السفارة الأمريكية، ثم الرد
الهزيل على اغتيال سليماني نفسه.
في
السياق، لا بد كذلك من استحضار موقف أمريكا (والغرب) المخجل من الحراك أو
الانتفاضة العراقية، والصمت المدوّي عن قتل المتظاهرين السلميين بدم بارد، بغرض
الحفاظ على الواقع، المشهد نفسه السائد منذ غزو البلاد في العام 2003 حتى الآن.
عموماً
لا شيء يعبر عن المشهد العراقي الراهن أكثر من الإنزال الأمريكي لقوات المارينز
داخل السفارة ببغداد ليل الأول من كانون الثاني/ يناير، بعد قطع الكهرباء عن
المنطقة الخضراء كلها أمام أعين المؤسسة الرسمية والطبقة السياسية، وطبعاً الشريك
الاحتلالي الإيراني الصغير وحشده الشعبي، بينما الانتفاضة الجماهيرية السلمية
مستمرة ضد هذا المشهد كله.