الأدب وإشكاليّة الهويّة في التاريخ الحديث

من الآثار الخطيرة للأدب والفن أنّه يعين البشر على فهم بعضهم وأننا ننتمي للنوع نفسه، نتعلم عن الهوية الإنسانية من خلال ما نتشاركه في عالمنا، على الرغم من الفروق العرقيّة والدينيّة والثقافيّة.

وأقتبس هنا من الروائي ماريو بارغاس يوسا "لا شيء يحمي الإنسان من غباء الكبرياء والتعصّب والفصل الديني والسياسي والقومي أفضل من تلك الحقيقة التي تظهر دائما في الأدب العظيم: أنّ البشر من كل الأمم متساوون بشكل أساسي، وأن الظلم بينهم هو ما يزرع التفرقة والخوف والاستغلال".

الفن يمتلك من الخصائص ما يجعله مؤثرا بعمق في التصورات الإنسانية وبشكل يتجاوز المدركات الواعية، ويفوق أنماط الكتابة الأخرى، يقول آرسطو "الأدب أكثر قدرة على التفلسف من التاريخ وأهم منه، لأنه يحيل الجزئي والخاص إلى كلي وعام". وهذا الذي يجعلنا نجد متعة في آداب الأمم الأخرى وفي الأدب القديم؛ فمثلا طرفة بن العبد خاف الموت الذي نخافه نحن، ويخافه الإنسان أينما وجد.

الرواية الكلاسيكية مرتبطة بالواقع وبالإنسان في صورته الحقيقية، ومن خلال ذلك الارتباط ومن نجاح تجاربها الفنية تمكنت من إحالة الصورة الجزئية للإنسان الواقعي إلى كلية، فآلام الإنسان وآماله متشابهة عابرة للزمان والمكان، الخوف من الموت والمرض والفقر والسلطة إنسانيّ وكليّ، وفي هذا تجسيد لمقولة آرسطو عن إحالة الجزئي والخاص إلى كليّ وعام. في الرواية التي كتبها إبراهيم الكوني تعبيرٌ عن فضاء مغلق ومحدود، غير أننا نتفاعل معه بصيغة إنسانية تعبّر عن صراع الإنسان مع الطبيعة، وهذا يمسّ الإنسان في كلّ زمان ومكان.

غير أن هذا المشترك الإنساني لا يعني في هذا السياق النظر إلى الإنسان نظرة واحدية قسرية تنفي التعدد، على العكس تماما تحتفي به وترى أن هذا التعدد ميزة الإنسانيّة الكبرى، ووجه الفرادة في النوع البشري، وهو ما يستحق الاحتفاء والثناء. وقد ظهر مثل هذا الاحتفاء في دراسات الأدب المقارن التي اكتسبت أهميّة كبرى في بيان التماثلات والاختلافات في المجتمعات الإنسانية المتباينة.

واستطاع هذا الحقل تحقيق إنجازات حتى في العصر الاستعماري وما بعده وفي عصر العولمة، ولنتذكّر أنّ مشروع إدوارد سعيد "الاستشراق" كان نتيجة حقل الأدب المقارن. وصف هاري لافين أحد أبرز المشتغلين في الأدب المقارن في أمريكا كتاب "الاستشراق" بأنّه أكمل وجه لإنجاز عمل ممكن في الأدب المقارن. 

التاريخ الحديث يبدأ في متوالية منذ عصر التنوير الأوروبي وتحطيم المجتمع الإقطاعي وظهور الطبقة البرجوازيّة، وبالتالي ظهور منظومات جديدة على كافة المستويات القانويّة والسياسيّة والاقتصاديّة، وكذلك على المستوى المعرفيّ والثقافيّ.

وعلى الرغم من ظهور المفاهيم الأساسيّة للمجتمع الحديث في هذا السياق التطوريّ مثل العدل والمساواة والحريّة ومركزيّة العقل، كان هناك تفريق بين الأمم والمجتمعات في قدرتها على تبني هذه المفاهيم، ومدى صلاحيّتها لها، وتمّ النظر إلى المجتمعات الأخرى نظرةً شيئيّة موضوعية جرّدتها من الإنسانيّة، وهذا يشمل حتى بعض النظريات الكبرى كالماركسيّة، فيشار عادة في بعض النقد الموجه لماركس وإنجلز الاهتمام بحركة العمال البيض دون سواهم، وكذلك عدم التركيز على تحرير العبيد. 

في الدولة الحديثة تم إخضاع سكان الدولة كافة لجملة النظم التي تمكّن أجهزة الدولة السياسية والعلميّة من العمل في مناطقها المختلف، بحيث يتمكن العلماء والساسة من الانتقال من جامعة إلى أخرى والأطباء من مستشفى إلى آخر، والأمن، والسوق، مثال على ذلك بريطانيا وفرنسا وسويسرا التي أخضعت أقاليمها وقومياتها المختلفة لنظام يمكّن المؤسسات العامة من العمل في كل أراضيها.

الوحدة الجامعة هنا هي الدولة، ولعبت الرواية دورا مركزيّا في التعبير عن روح الدولة الواحدة، فيقال مثلا الرواية الفرنسية عبرت عن المشترك القيمي والروحي للأمة الفرنسية. وهذا يعني بالضرورة أن الدول الأخرى كيانات منافسة، الأمر الذي أدّى إلى الحروب والاستعمار والتنافس بين الدول الكبرى للحصول على موارد خاصة بها.

هذه النزعة تعرضت لنقد شديد في الأدب، لا سيما العمل على تذويب صورة الإنسان الفرد وإخضاعه لمنظومات الدولة الصناعية، مثال ممتاز على ذلك رواية "الساعة الخامسة والعشرون" لقسطنطين جورجيو التي يعرض فيها هزيمة الروح الإنسانية في أوروبا وتحويل الإنسان من روح فرديّة وقصّة مميزة فريدة إلى مجرّد رقم في سجلات الدولة، المهمّ منه هو مقدار الإنتاج والاستهلاك. جورجيو يركّز في هذه الرواية على أنّ المشكلة في عمقها ليست في الحرب العالميّة الثانية لأنّها لا بد أن تنتهي، وإنّما عمق المشكلة كامن في الروح الآلية التي سيطرت بشكل كاسح على نظام الدول الأوروبية.

وهنا لا بد من ملاحظة أن الألم المتشابه من هذه الروح يخلق صورة للإنسان المتوحّد في ألمه عبر الدول الأوروبية كلّها، لكنّه إنسان مسحوق مغلوب، لذلك هذه الرواية لا تبشّر بنهضة الروح الإنسانية وانتصارها، وترى أن كل المنجز العلمي والمؤسسي في الدولة الحديثة أدّى إلى خراب الروح الإنسانية ودمارها. وطبعا في هذا الفترة من التاريخ الحديث كان للأدب أهميّة خاصة في إبراز الدعوات المطالبة بالحقوق الإثنية والقومية داخل الدولة الواحدة، وفي إبراز الدعوات للاستقلال في الدول المستعمَرة والحفاظ على هوياتها الخاصة باعتبارها وحدة واحدة لحفظها من الذوبان في ثقافة المستعمِر.