قد يبدو غريبا حقا أن تنتج مصر أول فيلم كرتون طويل سنة 2019. ولا ينحصر سبب الغرابة في تطور صناعة الكرتون على نحو مذهل، وهو ما جعل إنتاج أفلامها أكثر اعتمادا على البرامج الرقمية الحديثة، وبالتالي قلّ التدخل البشري في رسم المشاهد بعد أن قدمت برامج الرسم والتحريك حلولا سريعة مُحْكمة، تُغني المنتج عن رسم المشاهد، بتفاصيل حركتها، يدويا.
منذ التسعينيات، تتطور صناعة الكرتون تقنيا ورقميا، ويزداد إنتاج دول العالم منه، خاصة مع ظهور الأفلام ثلاثية الأبعاد (3D).
قدمت مصر بعض مسلسلات الكرتون التي ذاع بعضها، مثل "بكّار"، الذي بدأ عرضه على القناة الأولى بالتلفزيون المصري منذ سنة 1990، وحقق جماهيرية واسعة، على يد مخرجته ومصممة بطله، الفنانة منى أبو النصر، التي رحلت عام 2003، فحمل ابنها المخرج شريف جمال مسؤولية إخراج المسلسل حتى توقُّفه عام 2007، قبل عودته مرة أخرى في سنة 2015 لكن في نسخة ثلاثية الأبعاد (3D)، بعد أن كان منذ بدايته ثنائي الأبعاد (2D).
ربما نتفهم عدم إنتاج التلفزيون المصري لأفلام كرتون طويلة لأنه ينتج المسلسلات التي يعرضها على قنواته، تاركا مسؤولية الأفلام الطويلة لشركات الإنتاج السينمائي، التي تسعى نحو الربح السريع، وإنتاج الكرتون مكلف بسبب احتياجه لأيدٍ عاملة مدربة على استخدام برامج الرسم والتحريك، بالإضافة إلى أجهزة الكمبيوتر ذات الإمكانات الهائلة، وبالتالي، الأسعار الباهظة.
لكن اللافت هنا أن مصر سبقت دولا كثيرة متميزة في الإنتاج السينمائي، حين صدر أول فيلم كرتون مصري قصير في سنة 1936، بينما السينما تخطو أولى خطواتها في أكثر دول العالم. فبعد نجاح شركة ديزني في تسويق أفلام ميكي ماوس، فكّر المنتجون في مصر في استثمار الفرصة وخوض مغامرة إنتاج فيلم كرتون قصير؛ هكذا ظهر مشمش افندي، أول شخصية كرتونية مصرية، في فيلم "مفيش فايده"، الذي دفع نجاحُه وزارةَ الزراعة المصرية للاتفاق مع منتجه على تقديم فيلم كرتون تعليمي من بطولة مشمش افندي لتعليم الفلاحين كيفية مقاومة آفات القطن!
لكن الأدق أن نقول إن منتجي الفيلم روس متمصِّرون، وهم أسرة يهودية.
استقر الأب ناحوم فرانكل وأبناؤه في مصر، وعملوا في صناعة الأثاث، وكانوا فنانين موهوبين وعاشقين للسينما. فافتتحوا استوديو لإنتاج الرسوم المتحركة، بعد أن أغراهم نجاح ميكي ماوس، الذي عُرض في السينما المصرية عام 1930.
من طرائف مشمش افندي أن سبب تسميته بهذا الاسم أن ناحوم فرانكل حين فاتح رجل أعمال مصريا في فكرة استثمار أمواله في استوديو رسوم متحركة، أجابه الرجل بالرفض قائلا: "مفيش فايده"، وحين عاد لسؤاله بعد فترة أجابه: "في المشمش". وهي العبارة المصرية الدارجة الدالة على المستحيل. قررت الأسرة تحدي الصعاب فأسست الاستوديو واستوحت اسم الفيلم وبطله من كلمات الرفض التي تلقوها من رجل الأعمال الذي لابد أنه ندم على ما قال.
لكل ذلك، يبدو غريبا أن مصر لم تنتج فيلم كرتون طويلا حتى اليوم. لكن يبدو أنّ صُنّاع فيلم "الفارس والأميرة"، وهو أول فيلم كرتون مصري طويل، يدركون هذه الحقيقة، ويتصرفون وفقا لها.
في لقاءات صحفية مختلفة أشار المخرج وكاتب السيناريو المصري المعروف "بشير الديك" إلى أن الفكرة بدأت عام 1997، حين أشار عليه صديقه المخرج الراحل محمد حسيب بصناعة فيلم كرتون طويل. كان المقترح أن يكتب الديك الفيلم ويخرجه حسيب. تفاوضا مع المنتج عباس بن العباس الذي وافق على الفكرة.
بدأ العمل لمدة سنتين ثم توفي حسيب، فاتفق المنتج مع بشير الديك على كتابة العمل وإخراجه وكانت له تجربة مع إخراج فيلم كرتون قصير لمس نجاحها في مهرجانات الأفلام.
تتمحور قصة الفيلم حول عمل بطولي، نهض به قائد عربي شاب في القرن الأول الهجري. محمد بن القاسم الثقفي، وهو نجلٌ لأحد أبناء عمومة الوالي الشهير الحجاج بن يوسف الثقفي. يروي تاريخ تلك الفترة أن بعض قراصنة بلاد السند كانوا يغيرون على السفن التجارية في المحيط الهندي، وأنهم في إحدى سطواتهم أغاروا على 18 سفينة تجارية لتجار مسلمين، فنهبوها واعتدوا على من بها من نساء وأطفال، فاستغاثت امرأة بالحجاج، الذي راسل "داهر" ملك السند لاسترداد الأسرى، فغالطه الأخير بأنه لا سلطان له على القراصنة، لكن وفق بعض الأخبار التاريخية، كان داهر يقتسم مع القراصنة كل ما ينهبونه.
أرسل الحجاج قائديْن لمحاربة داهر فانهزما وقُتِلا في أرض المعركة، وكان نجل ابن عمه محمد بن القاسم القفي قد نشأ بين القادة والأمراء، ودُرِّب على قيادة الجيوش فأرسله الحجاج على رأس جيش كبير وأسطول مرافق له يحمل آلات المنجنيق الكبيرة. وصل محمد بن القاسم حدود الهند سنة 90 هجريا، وانتصر على جيوش داهر معركةً بعد أخرى حتى هزمه سنة 92 وسقط داهر قتيلا على أرض المعركة.
مضى محمد بن يوسف في فتوحاته حتى سنة 95 هجريا حيث تغيرت المعطيات السياسية بموت الحجاج، وتولي سليمان بن عبد الملك الخلافة.
اقتيد ابن القاسم مكبلا إلى واسط بالعراق حيث عُذِّب تعذيبا شديدا وقُتِل وهو في الرابعة والعشرين من العمر. يقول المؤرخون إن السبب سياسي حيث كان سليمان غاضبا على الحجاج فانتقم منه في شخص ابن القاسم.
من الواضح أن الفيلم لا يعالج نهاية ابن القاسم المؤلمة، فقد ركز صُنّاعه في حواراتهم على بطولته في إنقاذ النساء والأطفال.
منذ أواخر التسعينيات توقف إنتاج الفيلم كثيرا لظروف إنتاجية وتمويلية حتى اكتمل أخيرا، وعُرض في الدورة التاسعة لمهرجان مالمو للسينما العربية في أكتوبر الماضي.
وبميزانية بلغت 10 ملايين جنيه مصري، أعلن صناع الفيلم أنه سيُعرض قريبا في دور السينما، وأنهم حرصوا على تقديمه في صورة تليق بأول فيلم كرتون مصري طويل، راجين أن يفتح الباب واسعا أمام أفلام أخرى تقتحم الساحة الفنية.
نحن، إذن، في انتظار عرض الفيلم.
مئوية الأخ الذي في الظل: إسماعيل شبانة
رحيل رائد الدفاع عن اللغة العربية بمصر (شاهد)