في تحليل مفهوم الدولة الإسلامية، وعرض نظريات الحكم التي تدعو إليها الأصولية، يعترض الباحث مأزق البعد بين النصوص الثابتة وقوانين العلم الجديدة والمتغيرة، ولذلك تأتي محاولة التأصيل لمفهوم الدولة الإسلامية ونظام الحكم العادل فيها، والمسائل المتفرعة عنها، كالشورى وسلطة الأمة والحاكمية والدستور والحدود، محصورة داخل طروحات التيار الأصولي بحد ذاته، لكونه يحمل مرجعيات المفهوم ضمن اجتهادات أعلامه البارزين من أمثال الغزالي وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب ورشيد رضا والمودودي، إلى غاية نظرية المرجعية وولاية الفقيه للخميني.. في مقابل أعلام منهج النقد الذين يلتمسون قصور التأويل الأصولي في الفهم والاستنباط من أمثال المفكر الجزائري محمد أركون، والمغربي محمد عابد الجابري، وفؤاد زكريا، وحسن حنفي، ومحمد أحمد خلف الله وغيرهم...
ثم إن مناهج استيحاء الإسلام عند حسن البنا، وسيد قطب، وباقر الصدر حديثا، كأمثلة بارزة، لا تقل أهمية في فهم المدلولات التي يراد بها من وجهة التأويل الحداثي للنص، لبناء الدولة الإسلامية، التي ظلت مع كل الاعتبارات الموضوعية في فهم المعطى السياسي المعقد، عنوانا براقا لم تستطع معه الحركات الإسلامية الحديثة أن توحد نظرية متكاملة مستحدثة، خارج التأصيل التاريخي القديم. ولذلك نلاحظ أن رؤى الإسلاميين لا تكاد تخرج عن نطاقات محددة سلفا، تم التأصيل لها قبل قرون طويلة، دون أن تكون للاجتهادات "الحداثية" في الدائرة الإسلامية تأثيرات تذكر في بلورة رؤية جديدة.
لذلك تبقى الغاية من طرح هكذا موضوعات بعيدا عن الموقف الأيديولوجي منها، هي غاية معرفية تحديدا، مع الإقرار سلفا بفشل الخروج عن النمطية النصية، أو الاجتهادات التقليدية، وهو ما يلاحظ في محاولة مساءلة الطبقة المثقفة الإسلامية، التي ورغم إقرارها بأن الشريعة لا تعارض الاجتهاد البشري العلمي، إلا أن هذا الاجتهاد الذي توقف منذ زمن بعيد، يحمل اشكاليات عميقة تجعله حبيسا ومتوقفا، منذ قرون طويلة، وعاجزا عن إيجاد النظرية الإسلامية المتكاملة وتحويل الفعل التنظيري للدولة، واقعا يعيشه الناس، وليس أدل على هذا العجز من هذا الإقرار الجماعي بانعدام وجود للدولة الإسلامية خارج دولة النبوة والخلفاء الرشدين، رغم وجود المبادئ الأساسية الراقية بل و"المثالية"، والتي تجعل من مبدأ الشورى (الديمقراطية) لا يقوم على مفهوم سيادة رأي الأغلبية، إنما على مفهوم سيادة الرأي الصحيح.
الدولة الإسلامية دولة مدنية وليست "ثيوقراطية"
يؤكد الشيخ أبو جرة سلطاني، الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، كبرى الحركات الإسلامية في الجزائر، أن الدولة في الاسلام مفهوم أصيل، وهو أصل من أصول الشريعة، وقد كانت الدولة في زمن الرسول، تحل الإشكالات عن طريق التنزيل والوحي، ولم يكن الرسول بحاجة إلى أن يصنع هيكلا نمطيا، يدير به شؤون دولته في المدينة، ولكنه مع ذلك قام بالتأسيس للدولة، عبر المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، وكتب صحيفة سميت صحيفة المدينة، تضم حوالي 42 مادة دستورية، تشبه الدساتير الحالية، حددت العلاقة بين المسلمين بعضهم ببعض، والعلاقة بين المسلمين وغير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم، وجعلت لكل أمة كانت تسكن في مدينة يثرب وما جاورها حقوقها وواجباتها في السلم والحرب. كما جعل من المسجد مؤسسة، للتشريع والتنفيذ والعبادة، والتخطيط للمعارك.. إضافة إلى تحرير السوق، وعدم ابقائها محتكرة لليهود مع تشجيع التجارة والصناعة وتداول المصالح بين الناس.
لكن بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل أن يفرغ المسلمون من دفنه، توافقوا على البيعة حتى لا يبقى شغور في الدولة الإسلامية بوفاة الرسول، وقد تمت البيعة كما هو معروف لسيدنا أبي بكر وسمي خليفة المسلمين، الذي عمل على توسيع الدولة، ما فرض أن يضاف بند جديد وهو بند العلاقات بين المسلمين وبين جيرانهم في إمارتي الغساسنة والمناذرة، وامبراطوريتي الفرس والروم.
وفسر الشيخ أبو جرة سلطاني في تشريحه لمفهوم الدولة الإسلامية لـ "عربي21"، أن مسارعة المسلمين إلى اعتماد نظام البيعة على أنها مسألة أساسية في نظام الناس، دليل أن الدولة الإسلامية هي وجود مادي لتطبيق الشريعة وضبط حركة المجتمع، كونها سلطة معنوية لخلافة صاحب النبوة، والتي يعرفها القدامى في حراسة الدين وسياسة الدنيا بالدين، منوها أنه لا يوجد نموذج واحد للدولة الإسلامية بدليل أن دولة أبي بكر الصديق لم تكن نسخة طبق الأصل من دولة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكذلك حال الدولة مع باقي الخلفاء الراشدين.
لكن في المقابل، توجد أصول ثابتة ومعالم كبرى، من حق الخليفة أو الحاكم أن يكيفها أو أن يجتهد فيها، بما يحقق المقاصد الكبرى من وجود الدولة، لأن الدولة الإسلامية مفهوم مقاصدي، غايته الكبرى تحقيق العدالة الاجتماعية بين الناس، وضمان تكافؤ الفرص بين المتساكنين جميعا، سواء كانوا بين المسلمين أو غير المسلمين، على أساس المواطنة، حسن توزيع الدخل بين المواطنين، واستغلال الثروة.
ومع ذلك يعتبر الشيخ ابو جرة سلطاني أن الدولة الاسلامية حق أريد به باطل من ثلاث جهات:
الجهة الأولى، أنها دولة مدنية، وليست حكومة ثيوقراطية، بالمعنى الكنسي.
الجهة الثانية: أنها حكم بشري وليست وصاية ربانية، فالحكم للبشر والحاكم ليس ظل الله في الأرض.
الجهة الثالثة: أنها دولة محكومة بنصوص الشرع، ولكن مجال عملها اجتهادي، غايته تحقيق العدل، وإمضاء الخيرية بين الناس، والسعي لتحقي الاستقامة، في الأفراد والأسر والمجتمعات، ومكافحة الظلم، والفساد، وإقرار العدل، فالدولة الإسلامية ليست دولة ربانية بمعنى أنها تطبق حرفية النصوص، ولكنها دولة مدنية تحتكم إلى ثوابت النصوص وكليات الأحكام، وتجتهد في ما لا يتصادم مع هذه الكليات والثوابت.
إن المفكرين الإسلاميين المعاصرين، ومن اهتموا بالسياسة الشرعية يعتبرون بأن الشورى هي مبدأ عام، وضرورة التداول عند اتخاذ القرار، لكن أدواتها وآلياتها لم تنص عليها الشريعة الإسلامية لكونها محل اجتهاد
وبالنسبة لمبدأ الشورى، فالشيخ سلطاني يعتبرها ركنا من أركان الحكم الإسلامي، ولكن الإسلام لم يحدد لها آلية واحدة، فممكن أن تكون الشورى في مجلس يضم نخب الأمة ومفكريها، على غرار ما هو موجود في البرلمان والذي هو شكل من أشكال الشورى، وممكن أن تتوسع الشورى، إذا كان الأمر ذا قيمة متعدية، إلى ما هو أوسع من الجماعة والبرلمان، لتأخذ شكل الاستفتاء الشعبي العام، الذي تلجأ إليه الديمقراطيات الحديثة في تعديل الدستور مثلا، أو في تبديل العملة، أو في تحويل بعض معالم الدولة، التي تكون لها آثار متعدية. فالشورى مبدأ إسلامي ولكن أشكالها تتنوع وتتعدد بما يحقق المصالح المتبادلة بين الناس، بالتعاون والتكافل واحترام علاقة الحاكم بالمحكوم.
ويدخل الشيخ أبو جرة سلطاني في ما يخص التداخل وأحيانا التناقض الذي قد يحصل ما بين مبدأ الشورى، ومصطلح "أهل الحل والحقد"، مشيرا إلى أن "أهل الحل والعقد"، كانوا موجودين في دولة حدودها معلومة وقضاياها داخلية، لكن حينما يكون الأمر متجاوزا للعلاقات الداخلية بين المسلمين من حق الحاكم أن يوسع الشورى خارج نطاق ما يسمى بجماعة الحل والعقد، وهو ما فعله المسلمون بعد مقتل الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فقد كان بعض أهل الحل والعقد يطرقون الأبواب ويستشيرون النساء والأطفال عن رأيهم في من سوف يخلف الفاروق.
ولذلك يفرق العلماء بين الاستشارة والشورى، فالاستشارة تعم جميع من يملك رأيا، ينفع أهل الحل والعقد، في بلوغ أنضج القرارات، بينما الرأي الفصل الذي يتحول إلى قرار هو من اختصاص من تنتدبهم الأمة، للنظر في شؤونها ولا مشاحة في الألفاظ إذا سمينا جماعة الحل والعقد أو البرلمان الوطني أو أي اسم آخر.
الديمقراطية وفرت أدوات إنفاذ مبدأ الشوري
ويرى الدكتور فاتح ربيعي، رئيس "حركة النهضة" الجزائرية سابقا، أن مفهوم الدولة الاسلامية، هو مفهوم أصيل، منذ دولة المدينة المنورة التي أسسها الرسول الكريم، لكن المصطلح كمصطلح فهو جديد، وقد ظهر في بداية القرن العشرين، وأول من تداوله هو أبو الأعلى المودودي، وبعد ذلك تداولت كتابات المعاصرين قياسا على ما هو موجود في الدولة الحديثة.
ولا يرى الدكتور فاتح ربيعي في حديثه إلى "عربي21"، فرقا كبيرا بين الدولة الإسلامية والدولة المعاصرة في ناحية التطبيق، كون الدولة المعاصرة نفسها لم تعش مفهوم الدولة في أبهى صورها كما تعيشه الآن، إنما الفرق بين الدول، هو في المرجعية، التي تحتكم إليها الدولة الإسلامية في عهد الرسول كانت كاملة الأركان، ودستورها كان وثيقة المدينة، كما المرحلة الراشدة للخلفاء، يكاد يكون إجماع بأنها جسدت المفهوم الحقيقي للدولة الإسلامية، من حيث العدل ومن حيث تطبيق الأحكام، وإشاعة الحريات بناء على التصورات والمبادئ الكلية لهذه الشريعة.
ويعترف الدكتور فاتح ربيعي بحدوث انحراف بعد فترة النبوة والخلافة الراشدة في تطبيق هذه المبادئ، وتحولت الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض وإلى جبرية، ثم إلى أن سقطت الخلافة الإسلامية بسقوط الدولة العثمانية، ومن يومها، بدأت الحركات الإصلاحية بالظهور في مصر والجزائر وغيرها، وكان فيها الدور لأسماء بارزة كالأفغاني وأبو الأعلى المودودي، بغرض استعادة هذه الدولة التي فقدت والخلافة التي سقطت، وبهذا يمكن القول إن وجود دولة تطبق أحكام الشريعة الإسلامية مثلما كان عليه الحال أيام الخلافة الراشدة غير موجود.
القضاء الإسلامي يحاكم أمير المؤمنين
بالنسبة لموضوع الشورى والديمقراطية، فإن المفكرين الإسلاميين المعاصرين، ومن اهتموا بالسياسة الشرعية يعتبرون بأن الشورى هي مبدأ عام، وضرورة التداول عند اتخاذ القرار، لكن أدواتها وآلياتها لم تنص عليها الشريعة الإسلامية لكونها محل اجتهاد، فالديمقراطية الحديثة أتت لنا بأدوات وآليات لإنفاذ مبدإ الشورى، وبالتالي لا تعارض بين الشورى كمبدأ وبين الأدوات والآليات التي جاءت بها الديمقراطية، بما يعني تكامل المبدأ مع الوسيلة.
الشريعة بإمكانها أن تعطي الحلول لجميع ما يطرح من مستجد على الدولة، فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان لأنها لا تعارض الاجتهاد البشري العلمي الذي يحقق مقاصد الشريعة.
ويرى الدكتور ربوح أن الدولة والشريعة مفهومان مختلفان فالشريعة بالمصطلح الحديث هي مجموعة القوانين والأحكام المستمدة من مصادر التشريع الإسلامي، التي تنظم معظم مجالات الحياة على مستوى الفرد والمجتمع والدولة، أما مفهوم الدولة في الإسلام فهو لا يختلف عن بقية التعريفات الحديثة للدولة والتي لابد أن تتوافر لها عناصر أساسية حتى نسميها دولة وهي: الإقليم، الجيش، الشعب ودولة الإسلام بدأت في إقليم المدينة المنورة وكان شعبها خليطا من المسلمين واليهود والنصارى وتملك جيشا كان محمد صلى الله عليه وسلم هو القائد الأعلى له، وهو الذي قاده الدفاع عن هذه الدولة الفتية وتبعه في ذلك خلفاؤه الذين نظموا الدولة وساهموا في مأسستها.
الشريعة لا تعارض الاجتهاد البشري العلمي
إن الشريعة الإسلامية كما يقول الدكتور إدريس ربوح لـ "عربي21"، لديها إجابات في جميع مناحي الدولة وقوانينها من قانون الأحوال الشخصية إلى القانون الأساسي (الدستور) للدولة، وهذا لا يعني أن القوانين جاهزة لكل شيء وإنما مصادر التشريع في الإسلام وفرت فسحة كبيرة للاستنباط والقياس ومواكبة ظروف كل عصر ومصر للخروج بقوانين وتشريعات تحقق المقاصد الكبرى للشريعة في حفظ الدين النفس والعقل والنسل والمال.
إذا الشريعة بإمكانها أن تعطي الحلول لجميع ما يطرح من مستجد على الدولة، فالشريعة صالحة لكل زمان ومكان لأنها لا تعارض الاجتهاد البشري العلمي الذي يحقق مقاصد الشريعة.
الشورى هي قيمة أمر الله بها رسله وعباده إلى الأخذ بها لمدارسة جميع القضايا التي تعترضهم في الحياة، أما الديمقراطية فهي آلية ابتكرها الإنسان لتنظيم الخلافات وتنظيم الوصول إلى السلطة السياسية وغيرها.
فالشورى يختم الدكتور ربوح في كل أمر لا بد أن تكون حاضرة أما الديمقراطية فتأخذ أشكالا مختلفة حسب ما يرتضيه أهل البلد لتسيير أمورهم للتغلب على الأساليب العنيفة في فض الخلافات والنزاعات.
سلطة العدد .. وسلطة الحق
ولا يختلف الدكتور سليم قلالة أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، في موضوع أن الدولة مفهوم أصيل في الإسلام لثلاث اعتبارات على الأقل:
الأول أن مراحل نشأتها اختلفت عن الدول التي سبقتها، حيث كان محورها بناء المسجد وأساسها مفهوم الأخوة قبل المفاهيم السياسة الاقتصادية والدفاعية الأخرى...
الثاني أنه كان لها دستور (دستور دولة مدينة رسول الله (صلعم)، حيث كان مختلفا عن دساتير ما سبقها من دول (البابليين والفينيقيين واليونان والرومان... الخ ).
الثالث أن طريقة انتقال السلطة فيها تُركت لأمر الأمة ولم تبت فيها النصوص الشرعية.
وحول وجود نموذج لهذه الدولة الإسلامية في التاريخ، يقر الدكتور قلالة بوجودها في دولة مدينة رسول الله (صلعم) في جانب القواعد التأسسيسية، ودولة الخلفاء الراشدين في جانب استنباط أحكام طبيعة السلطة السياسية.
أما بخصوص الدولة والشريعة، فيفرق الدكتور سليم قلالة بين الدولة بطبيعتها (زائلة) والشريعة بطبيعتها (باقية). وفي فترة من الفترات ربط المسلمون بين حدود الدولة وانتشار تطبيق الشريعة وقالوا بأن حدود الدولة هي حيث طُبِّقت الشريعة. لا حدود ثابتة لدار الإسلام. من ناحية أخرى أحكام الشريعة سابقة لوجود الدولة. ما جاءت الدولة إلا لحماية الشريعة.
الشورى هي قيمة أمر الله بها رسله وعباده إلى الأخذ بها لمدارسة جميع القضايا التي تعترضهم في الحياة، أما الديمقراطية فهي آلية ابتكرها الإنسان لتنظيم الخلافات وتنظيم الوصول إلى السلطة السياسية وغيرها.