رواية "شجاعة طائر الحناء" للروائي الإيطالي ماوريتزو ماجاني، تدور أكثر أحداثها في مدينة الإسكندرية في النصف الثاني من القرن الماضي وما بعده، حيث لجأ إليها والد الراوي "سافيرو" الإيطالي ومجموعة من الإيطاليين الهاربين من النظام الفاشي، علاوة على المهاجرين والتجار والنازحين من العرب والغربيين من شتى الدول والطوائف.
وقد اختار الكاتب الإسكندرية مسرحا لأحداث روايته، كما يقول في حوار مع المترجِمة؛ لأنها تعبر عن حياة البحر المتوسط في أجلى صورها، فهي مدينة عاشت على مدار القرون وازدهرت بفضل ما فيها من قدرة على التعايش بين الثقافات والأجناس المختلفة، وهي مكان لاستقبال الغرباء وأرض للتسامح. ويسرد الراوي، أثناء إقامته، طبيعة الحياة في الإسكندرية وصحراء مصر التي خصص جزءا غير قليل لسرد جمالياتها.
بالإضافة إلى الإسكندرية يتطرق الراوي، مستخدما ضمير المتكلم، إلى حقبة من تاريخ إيطاليا وتاريخ كنيستها، علاوة على القضية الفلسطينية ونكسة 1967، ومجزرة تل الزعتر عام 1982 من خلال شخصية "فتيحة" الفلسطينية التي عاينت هذه المجزرة وشاركت فيها كطبيبة لعلاج المصابين ، فجمعت الرواية بذلك بين الماضي والحاضر في تجانس لافت.
أحداث الرواية
تبدأ الرواية بلجوء الراوي" سافيرو" إلى أحد المستشفيات بعد فقده للوعي بعدما ارتطم رأسه بصخور سد الميناء القديم في محاولته للبحث عن الميناء المفقود، وهناك يبدأ بكتابة مذكراته بعدما أرشده طبيبه بأن الكتابة طريقه للشفاء، فكان يقص أحلامه كل صباح عليه.
يعثر الراوي على ديوان شعري بطريق الصدفة من تركة والده، ومن خلال مجموعة من أصدقاء والده الإيطاليين المهاجرين يتعرف على شيء من سيرة مؤلفه الشاعر أونجاريتي الذي كان على صلة بوالده، فقد التقى به في الإسكندرية، كما يعرف بعضا من سيرة بلدته " كارلومانيو" التي تعرضت للإبادة.
عندئذ سيطرت عليه حالة من القلق والتوتر والضياع، وتواردت جملة من الأسئلة حول حقيقة هذه الأشعار التي أثرت فيه تأثيرا بالغا، وحول علاقة الشاعر بوالده، وحول بلدته التي لا يعرف عنها شيئا، والتي قيل عنها بأن سكانها عجيبون، وأنها كهف للفوضويين والمدّعين والمشاكسين، وأنهم شعب من المتوحشين والمجانين، لذلك لم يبق أحد يتحدث عن وجودهم.
مثلت هذه الأسئلة هاجس الراوي، فكان يحلم بها كل يوم، لذلك يقرر السفر إلى إيطاليا للتعرف على بلدته، وهناك يلتقي، بالصدفة، بالشاعر أونجاريتي الذي ترك له مجموعة من الأوراق المهمة تتناول سيرة بلدته وما حل بها من دمار.
عنف الكنيسة
مغزى الرواية الأساسي يدور حول الاضطهاد نتيجة التشدد الديني المدعًم بأطماع سياسية، وما يمكن أن يوقعه من ظلم على البشر، بخاصة البسطاء منهم. ويمثل الآخر عند المتدين المتشدد: المهرطق، والوثني، والضال، وهي التهم التي يلصقها هذا المتشدد بمن يخالفه في الديانة، أو في المذهب الفرعي داخل الديانة ذاتها.
ففي حدود القرن السادس عشر تعرضت بلدة " كارلومانيو" لبطش الدولة الرومانية التي كانت تبحث عن ضمها لممتلكاتها، لكن أهلها رفضوا الرضوخ لحكمها، وكان جزاؤها التعرض للإبادة الشاملة، فقد أخذت فرق الجيش الروماني تنزع العشب من السهل، وجرفت عرباتهم كل الوادي، وجففت الخيول مياه الأنهار الصغيرة لتروي عطشها، وبعد حرب ومقاومة شرسة استمرت مئتين وخمسين عاما أبيدت البلدة بشكل كامل، وأبيد أهلها، أما الذين بقوا على قيد الحياة فقد سيق عشرة آلاف منهم مكبلين بالقيود كالعبيد، وتحول بعضهم إلى السكن في الجبال والكهوف، حيث تحولوا إلى ما يشبه الذئاب توحشا وشراسة، وظل بعض المشوهين الذين أصابهم الجنون من التعذيب هناك، بالإضافة إلى بعض النساء اللاتي تم العفوعنهن.
وتسرد الرواية، بدقة متناهية، عنف الكنيسة الرومانية، التابعة للإمبراطورية، ضد الخارجين عن طاعتها، وذلك من خلال الأوراق التي تركها الشاعر للراوي، حيث تكشف عن شخصية "باسكال" اللوثري ابن البلدة، الذي تعرض لعقوبة الإعدام بالحرق، لأنه رفض الاعتراف بخطاياه، كما رفض سماع القداس، واستمر على موقفه، فقد عدّته الكنيسة لوثريا مهرطقا خارجا عن طاعة البابا والإمبراطور، واتهمته بالافتراء والتجديف على العظمة الإلهية.
مثلت هذه الحادثة الدموية، علاوة على حادثة الإبادة، نقطة تحول لدى الراوي، الذي أخذ بدراسة تاريخ إيطاليا وأوروبا في الفترة التي تم فيها حرق باسكال وأبناء بلدته، حيث تبين له حرق ما يزيد عن أربعين ألف من سكان البلدة خلال عشرة أعوام بتهمة الهرطقة، إذ اعتُبروا الأبناء غير الشرعيين للمسيح بنظر الكنيسة. كان هناك نساء وأطفال وشباب وشيوخ تم حرقهم جميعا أو شنقهم أو دفنهم أحياء أو ألقي بهم في الميناء، وقد شارك في حرقهم كل من: بابا روما، وإمبراطور أوروبا، والأمراء، وقديسو الكنيسة.
وقد صور سافيرو في مذكراته التي استخلصها من قراءته هذه الوقائع المريعة بقوله: "كانت أصداء الوقائع البعيدة تدوّي في صمت المستنقعات، وتخيف الرجال وصولا إلى المراعي الجبلية بإشاعاتها ونبوءاتها.
دماء الصالحين تسيل فوق دماء الخنازير. أمراء وأساقفة أصبحوا أكثر شرا من الشيطان. قديسون يُذبحون، وأطفال يعلًقون على أعمدة المشانق. فتيات يُدفنّ أحياء".
لقد بلغ استبداد الكنيسة منتهاه، ولم ترض لسكان البلدة اعتقادهم الديني الخاص حول الله والمسيح وتصورهم الخاص للعالم، فقد كان لبلدة "كارلومانيو" إنجيلها الخاص، وليس الإنجيل المعروف، وهو مكتوب باللغة الإيطالية وليست لغة الكنيسة الرسمية، وهو إنجيل مهرطق كما عدّته الكنيسة، وهو كما قال أحد القساوسة الذين التقى بهم سافيرو في مصر، ليس مجرد رواية بل يوميات، ودفتر طويل للحساب المفتوح بين الإنسان والإله. كما كانت لديهم نظرتهم البسيطة المرتبطة بنشأة الكون، وأغنية خاصة بسلالتهم، وكان إنجيلهم ينتقل شفاهية من جيل إلى آخر، مع جهلهم التام بالتعاليم الدينية والمذهب.
كانوا يشعرون أنهم أبناء المسيح بطريقة حميمية، وكانوا يحبون وجهه كما وصلت إليهم صورته، وكانوا يقبّلونه كل عام، احتفالا بقيامته وقيامتهم من شرور الحياة الأرضية، كما كانوا يعتقدون بالقصة المدهشة للدلو المعجز لمريم المجدلية الذي يجمع بعضا من الدم المسكوب من المسيح بعد صلبه، وحياة الشعب وعذاباته وموته، ثم قيامته بفضل السائل الحيوي المنبعث من المسيح.
خاتمة
يمكن القول، في الختام، إننا إزاء رواية حديثة على المستوى الفني، فقد وظف الكاتب الأساليب السردية الحديثة للتعبير عن رؤيته مثل: الحلم والمراوحة بينه وبين الواقع المعيش، والانتقال بين الأزمنة والأمكنة المتعددة بين مصر وإيطاليا، علاوة على توظيف تقنيات المراوحة بين المتناقضات، والاسترجاع، والقطع الزماني والمكاني، وأسلوب تيار الوعي، واستخدام أسلوب المذكرات والوثائق الذي اعتمد عليه الروائي اعتمادا واضحا وبنى عليه روايته.
الكنيسة المسيحية: صراع الدين والدولة (2-2)
"دون كيشوت كما نراه": المأساة ذاتها لكن بأدوات أخرى