ليست الرومانسية محض
اتجاه ومذهب أدبي أو فني منعزل عن نمط الحياة والفكر والسياسة، فالحركة الرومانسية
الغربية الأوروبية تشكلت في ثلاثة بلدان في مرحلة واحدة وفترات متقاربة، بدأت
أولاً في ألمانيا أواخر القرن الثامن عشر، مشكلة مدرسة أدبية ونقدية كان رائدها
فريدريتش إشليغل، وهي لم تكن منقطعة الصلة عن طبيعة العصر فكريًا واجتماعيًا. ثم
تشكلت مدرسة الشعر الإنجليزي التي ظهرت في العقد الأخير من القرن الثامن عشر وقاد
حركتها شعراء أمثال كولريدج ووردزورث. وكانت فرنسا ثالثة البلدان التي تزدهر فيها
الحركة الرومانسية ما بين عامي 1820 إلى 1850.
ولعل مما تجدر ملاحظته
أن هذه الحركة لم تكن مجرد ثورة في الأسلوب الأدبي، أو مجرد ثورة في الفنون
إجمالاً، بل إنها جاءت حصيلة طبيعية لتحولات فكرية واجتماعية كانت من إفرازات عصر
التنوير، ومن ثم فهي ذات ارتباطات جذرية بمنظور إنساني شامل، إذ لا يمكن فصل هذا
التوجه الكلي عن فكر التنوير، ولا يمكن الاعتماد على فكرة أن التنوير يعلي من
العقل والإرادة الصلبة للإنسان، وأن الرومانسية كانت ضد العقل. الأمر مختلف
تمامًا، فقد كانت غاية التنوير التخلص من سذاجة الإنسان وتحرره من التبعية
اعتمادًا على التجربة العقلية الذاتية، ولم تكن الرومانسية بعيدة عن هذا التوجه في
الاهتمام بتحرر الإنسان من الداخل اعتمادًا على مشاعره الأصلية لكي تسمو بالروح
إلى المراتب العظيمة، لم يكن موقف الرومانسية من العقل سوى مواجهة التطرف العقلي، لذلك
فقد نظر إلى الرومانسية على أنها حركة تتسم بالقدرة على الاحتواء، ولا تنفي
الغايات العقلية السابقة لها، وأنها تمثل استمرارية للحركة التنويرية، ولكن في ثوب
آخر، من أجل ذلك فقد عدت الطفل المشكلة لعصر التنوير.
لقد التقت الرومانسية
مع الاهتمامات الطموحة لفكر الأنوار، فاشتركا معًا في الإيمان بالمفاهيم المطلقة
كالصدق، والعدالة، والإنسانية، والكونية... وأصبحت الرومانسية المصطلح الجديد
للفنون المعبر عن الحس الثوري والتجديدي لفكر الأنوار، فجاءت الرومانسية لتعبر عن
تلك التجربة الجديدة. وعلى أساس ذلك فالرومانسي الحقيقي ليس شخصًا حالمًا مرهف
الحسّ، وإنما هو نموذج بطولي يواجه حقائق عصره المؤلمة برؤية ذاتية متحررة تقودها
مشاعره الأصيلة، عندئذ يغدو نموذجًا للعبقرية.
إن إدراك هذه الحقيقة
تفسر المنحى الفريد الذي مثلته التجربة الرومانسية العربية وما وراءها، إذ تظهر
حالة من الحيرة عند قراءة ما مثلته من توجه يتسم بالتعارض عند شعراء أمثال أبو
القاسم الشابي وإبراهيم طوقان، تراوح شعرهما بين رومانسية الحلم والحسّ الثوري
العميق.
لقد تبلورت الحركة
الرومانسية العربية في لحظة تاريخية استثنائية في مطلع القرن العشرين، حيث تولدت
في تلك اللحظة الحالمة الرغبة بالاستقلال والحرية والانعتاق من التبعية. ربما ينظر
إلى كل ذلك على أنه يتطلب حالة من الالتزام والواقعية وهيمنة العقلانية الشديدة
وعدم الانزواء وراء الرغبات الفردية الذاتية، هذه الحالة الجدلية بين الدعوة
الرومانسية ومتطلبات المرحلة التاريخية بدت كما لو أنها تجسد مفارقة تصل حدّ
النقيضة التامة، وقد مثل أبو القاسم الشابي ذلك على نحو فريد ومميز.
لا شك أن الشابي يمثل
حلقة في سلسلة من الحلقات التي جسدت ريادة الحركة الرومانسية ذات الرؤية التنويرية
في الشعر العربي، ذلك أنه أثار جملة من الرؤى والتصورات التي تشي بوعي حاد لأهمية
التفرد الإنساني في عالمه الأرضي، ولعل أبرزها إحساسه بورطة الإنسان في هذا الكون،
ووجوده في عالم غير منسجم مع ما حوله، ولعل ذلك كان أساس الرؤية الرومانسية التي
جسدها في شعره، فمثل منبع فيضه الشعري الذي كشف عن حدة النزوع الذاتي للفرد. إلا
أنه إلى جانب ذلك كانت تتملكه رغبة جامحة في التحدي وتحقيق الفاعلية الإنسانية في
الكون.
اقرأ أيضا: صالح علماني: أن تفتح قارة أدبية بأكملها
من هذه اللحظة، لحظة
المفارقة الرومانسية، كانت تقبع الذات الشاعرة بين روح قلقة (انهزامية) تهرب إلى
عوالم الطفولة والحلم والموت والغياب، وروح ثورية الموقف رغبة في التغيير
والتجديد؛ فيظهر الشاعر ثائرًا مناضلاً، اعتمادًا على إحساسه الأصلي ومشاعره
المتحررة.
هذه الوضعية هي ما
جعلت شعر الشابي في مجمله يعاني من حالة جدل بين رومانسية تبدو حالمة، كما يظهر في
قصائد مثل: "الدنيا الميتة"، و"لست أدري"،
و"السآمة"، و"الكآبة المجهولة"، و"مأتم الحب"،
و"رثاء فجر"، و"قبضة من ضباب" وغيرها كثير. ورغبة تنويرية ذات
دعوة ثورية، حيث تتكشف رؤاه في قصائد مثل: "إرادة الحياة" و"النبي
المجهول"، و"الصباح الجديد" و"صوت من السماء" وغيرها
التي تتأسس على حالة من اليقين والثقة والتصميم والاتزان في النفسية تتجاوز حدّ
المنطقي والمعقول.
هذا حقيقة ما يكمن خلف
فكرة الرومانسية العربية والتوجه الشعري الذي لم يجد شروط تشكله اجتماعيًا
وتاريخيًا، ولم يسفر عن تحقيق طموحاته سياسيًا وفكريًا، فظل في حدوده الفردية،
يصدح بها الصوت الشعري وبعض دعاة الفكر، فقدم أبهى تمثل له في تجربة الشابي
الفريدة المميزة في حضورها وديمومتها، حيث ما زالت تتردد كلماته شعارًا للثوريين
الطامحين والحالمين في تغيير واقعهم التاريخي إلى مآلاته البهية.
نبوّة عالم الرياضيات: قراءة في رواية "شواش" لأحمد سمير سعد
دانتي.. الشاعر والسياسي (الكوميديا الإلهية)