يزداد المشهد السياسي الجزائري غموضا وتعقيدا بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التي أجريت الخميس الماضي، في ظل مقاطعة جزء كبير من الشعب الجزائري، ولا تبدو في الأفق مخارج سياسية واضحة المعالم وقادرة على تجميع الفرقاء الجزائريين.
ولم تخرج الجزائر عن النسق العربي العام لجهة الغياب اللافت للمثقف في قيادة حراك الشارع المطالب بالتغيير، فقد غاب صوت المثقف الجزائري وبدا باهتا من غير طعم ولا لون، ليس لأن صوت الشارع كان هو الأعلى، ولكن أيضا لأن النظام البائد لم يؤسس لقنوات حوار هادئ وآليات دستورية وسياسية مقبولة من الجميع قادرة على مواجهة مثل هذه الملمات.
ومثل كل تجارب التغيير التي عرفتها البشرية، فإن الشارع غالبا ما يفرز نخبته والمتحدثين باسمه، ولذلك تأخر الحراك الجزائري في إفراز نخبه، ليس لأنه يفتقر لها وإنما لأن منسوب الثقة القائم بينه وبين السلطة الحاكمة لا يفي بالإفصاح عن مثقفي الحراك..
هل يمكن أن تمثل محطة الانتخابات الرئاسية التي فاز بها عبد المجيد تبون وعارضها قطاع من الجزائريين مخرجا للأزمة السياسية التي تعصف بالجزائر منذ نحو عشرة أشهر؟ وهل يمكن للمثقف أن يلعب دورا في بلورة مخرج سياسي مناسب لهذه الأزمة؟
الكاتب والإعلامي الجزائري حسان زهار يناقش هذه الأسئلة مع عدد من الخبراء والأساتذة الجامعيين في هذا التقرير الخاص بـ "عربي21"، هذه تفاصيله:
عقلنة الحراك
وسط الحشود المتلاطمة، يغيب عادة صوت "العقل"، عندما تتأخر النخب المثقفة عن تصدر الحشود الغاضبة، وتحضر "الثورية" المنفعلة، عبر أعداد مهولة من "تشيغيفارات" الوقت بدل الضائع، لتقود الجماهير إلى حتفها أحيانا من دون أن تشعر، وقد امتلأت ثورات الربيع العربي وما تلاها من حراك متنوع في مختلف الساحات العربية، بهذا النوع من الراديكالية في طلب التغيير، دون اعتبار لسنن التدرج، فكانت النتيجة أن خربت أوطان بأكملها، لأن صوت العقل الذي تحمله النخب المثقفة كان غائبا، أو أريد له أن يغيب، لتحل الكارثة.
اليوم في الجزائر، يراد للمشهد القاتم ذلك أن لا يتكرر وأن لا تستمر حالة غياب النخب الواعية من المشهد، إذ إنه فور الإعلان عن فوز عبد المجيد تبون بانتخابات الرئاسة في الجزائر، ثار جدل فكري واسع، داخل الحراك الشعبي وخارجه، شارك فيه كتاب ومثقفون وإعلاميون، لتطرح معها قضايا كانت مغيبة سابقا، وعلى رأسها "فضيلة الحوار، باعتبارها وسيلة حضارية راقية لتجاوز الخلافات والرؤي المتضاربة، على نفس المنوال من الجدل الذي ثار من قبل، حول مفهوم "السلمية" في الحراك الشعبي وجدواها، في مقابل النزعة "العنفية" التي تراجعت بحكم تراكمات الماضي.
ومع ذلك، يبدو أن "صوت العقل" بدأ أخيرا يجد مكانته، فقد مد الرئيس الجديد يده بالحوار، في أول ظهور إعلامي له بعد إعلان النتائج، وبدأ الحراكيون يبحثون في أوساطهم عن "المثقف العضوي" الذي يحمل آمالهم ويعبر عنها، كما أعلنت تشكيلات كثيرة قبولها المبدئي بالحوار، غير أن صوت "الرافضة" بالمفهوم غير المذهبي، ما زال يمتلك أنصارا كثرا أيضا في الشارع، وهو الذي استطاع أن يصدر نموذجه "الجذري" (يتنحاو قاع) إلى دول أخرى شقيقة كالعراق (شلع قلع) ولبنان (كلن يعني كلن)، وما زال يجند حوله الأنصار.
فهل يمكن أن ننتظر انتصارا قريبا لـ"صوت العقل"، تجتمع فيه نخبة المجتمع، من مثقفين وجامعيين ورجال سياسة ودين، حول طاولة حوار يتم عبرها تبادل الأفكار بدل تبادل الاتهامات والشتائم؟ هل يمكن لمشروع مجتمعي متفق عليه، أن يكون بديلا عن الأجندات المتعارضة داخليا وخارجيا؟ وهل يمكن للشوفينية والشعبوية أن تتعطل لصالح الفكرة الوطنية الجامعة؟
العقل يقول أن استمرار المظاهرات الرافضة لكل شيء، بما في ذلك اجراء الانتخابات، طوال عشرة أشهر دون تقديم برامج وبدائل حقيقية، وحتى ممثلين يتحدثون باسم الحراك، قد ينذر بتحويل السلمية إلى "غوغائية"، أما وقد تم انتخاب رئيس جديد، فإن قواعد اللعبة تكون قد تغيرت بالكامل، وهنا يتوجب على النخب المثقفة، أن تتقدم الصفوف الثائرة، لتقديم فكر ومشروع بديل، عوض ترك القطار "الثورجي" يسير بلا وجهة محددة.
الحوار آلية حضارية
ظلت "السلمية" التي تميز بها الحراك الجزائري، وسيلة حضارية راقية لتحقيق المطالب العادلة، ويستوجب أن يكون الحوار النزيه والشفاف الآن، وسيلة حضارية لا تقل رقيا، والظاهر أن غالبية الجزائريين، بدأوا يقتنعون أن العدمية في الطرح، والرفض المطلق لحوار الآخر، بدعوى أنه "عصابة"، ليست سبيلا يمكن من إيجاد الحلول التي تنقذ الوطن، ولذلك بدأت الأصوات ترتفع من داخل الحراك والطبقة السياسية المعارضة، بعد دعوة الرئيس الجديد للحوار، لقبول العرض، وإن كانت تطرح في مجملها شروطا لذلك، أقلها إجراءات للتهدئة وإعادة الثقة المفقودة بين الحراك والسلطة.
قوى حراكية عديدة أعلنت قبولها بمبدإ الحوار، وكذلك فعلت أحزاب معارضة مثل حزب القوى الاشتراكية، وجبهة العدالة والتنمية بقيادة الشيخ جاب الله، شريطة أن يكون الحوار شاملا وجادا، حول الإصلاحات المطلوبة لتحقيق الإرادة الشعبية.
وكان لافتا أن بعض القوى الموالية حاليا، استعملت مصطلحات "عقلانية" جديدة عن خطابها السياسي السابق، ومنها حزب التحالف الوطني الجمهوري الذي دعا الحراك الشعبي "إلى تغيير موقعه والانتقال من عقل الشارع إلى عقل النخبة، أو الانتقال من قوة رفض إلى قوة اقتراح ومشاركة في دوائر صناعة القرار".
لكن هذا لم يمنع من ظهور أصوات راديكالية داخل الحراك نفسه، رافعة شعارات مثل "لا انتخابات مع العصابات" ولا حوار مع العصابات"، وتشكك في العملية الانتخابية برمتها، وتعتبر الرئيس الجديد "امتدادا للمنظومة القديمة"، ووجها مغايرا سيضمن استكمال "العهدة الخامسة" لبوتفليقة الذي اضطر للانسحاب تحت وقع الشارع.
وحتى في هذه الحالة، سيكون على النخب الرافضة للحوار، أن تطرح بدائلها، وأن تحرك أدوات العقل لتقديم بدائل منطقية، يستوعبها العقل خارج دائرة التخوين، ومطالبة قيادة الجيش بالانسحاب وتسليم السلطة للشارع، من دون آليات واضحة.
وهنا يرجح أن تلتحق القوى الرافضة تباعا بطاولة الحوار الشامل، خاصة إذا أثبتت السلطة الجديدة، جديتها بإطلاق سراح المعتقلين، وخففت قبضتها على وسائل الإعلام، وهو الأمر الذي سيأخذ وقتا إضافيا من أجل فك عقدة الحراك، في ايجاد التمثيل المقبول له، بين النخب المختلفة، ومن مختلف التيارات، من دون إقصاء، وتجاوز الأصوات التي بدأت بدورها في إقصاء المخالفين من طاولة الحوار، وتحاول احتكار الحوار لنفسها، بغرض الخروج بمغانم سياسية، وهو ما ترفضه شرائح واسعة تطالب بشمولية الحوار، وبالانفتاح على الجميع، معارضين للسلطة الحالية أو موالين لها.
النخب.. وإشكالية التمثيل
أخطر مهمة تواجه النخب المثقفة، خاصة في الأسابيع القليلة المقبلة، هي في كيفية فرض نفسها ممثلة للحراك، للحديث باسمه مع سلطة يراها البعض شرعية، ويراها البعض الآخر "سلطة الأمر الواقع".
لقد حاولت بعض النخب الوطنية، في بداية الحراك تقديم نفسها ممثلة للحراك، وتحركت في عديد الولايات لتأطير الحراك، لكنها جوبهت برفض جماهيري قاطع، تعرضت له الكثير من الوجوه النخبوية الحراكية الى الطرد والتخوين، بتهمة محاولة ركوب الموجة الشعبية، الأمر الذي أدى بتلك النخب إلى الانزواء قليلا، إلا ضمن دائرة ضيقة في حراك العاصمة، الذي تقبل فيما بعد بعض الوجوه النخوية، ولكن كان ذلك بعد أن أخذ الحراك الشعبي، صبغة معينة، تصدرته النخب اللائكية (كريم طابو، بوشاشي، عسول، بومالة ...)، وقليل جدا من الإسلاميين (الدكتور أحمد بن محمد ..).
ومع ذلك يعتبر الكثيرون أن مثل هذه الوجوه هي من النخب السياسية وليست نخبا فكرية ثقافية، والتي برأيهم جبنت في الخروج من دائرة التنظير الفلسفي، والمحسنات البديعية، إلى الشارع لكي تقوده، ويرجع مراقبون سبب ذلك، ليس فقط إلى جبن النخب المثقفة، ولا إلى ارتباطاتها القديمة مع النظام السابق، وإنما لأن الثورة الشعبية السلمية، هي نتاج حركية الجماهير بقيادة الشباب البطال وشباب الأحياء، وشباب ملاعب كرة القدم، بدليل أن الشعارات والأهازيج هي في الغالب الأعم، من إبداع شباب ملاعب الكرة، وهم من تقدموا الصفوف
.
لكن مع مرور الوقت، شكل هذا العامل الإيجابي، عبئا حقيقيا على الحراك، عندما صارت الغوغائية فاعلا فيه، وتقلصت داخله أصوات الحكمة والتعقل، بل وغابت فيه المبادرات الجدية التي يمكنها أن تحرج السلطة القائمة، فكان التخوين هو البرنامج الوحيد المرفوع، والراديكالية التي لا تملك أدوات القوة تحولت مع الوقت إلى مناطحة الجدران.
لذلك بات ضروريا الآن، ظهور النخب التي انزوت طويلا، خاصة وأن المجال الآن هو مجال للفكر والحوار والجدل العقلي، أكثر منه "مغالبة" أدت ما عليها، لكنها وصلت الى حدود استنفاذ الطاقة، وسيكون تحدي إخراج الحراك لنخبه من داخله، أكبر تحدٍّ يواجهه اليوم بعد تحدي الانتخابات التي لم يمنعها، لأن الاختيار السيء لهذه النخب قد تودي بتضحيات شهور طويلة من النضال، كما أن الاعتماد على النخب المزيفة، والوصولية منها فقط، سيعيد فتح المجال مجددا لدائرة التخوين المعروفة (وليس أدل على ذلك من رفض كل تمثيل الآن خارج الأسماء المعتقلة فقط).
المثقف النقدي ضحية المزيف
وحول هذا الدور المنتظر من النخب لعقلنة الحراك، يعتبر الروائي بشير مفتي أن النخب المثقفة والمستقلة والنقدية تم إقصاؤها منذ فترة طويلة لصالح نخب مغشوشة ومزيفة، ولهذا يوجد شبه قطيعة بين النخب النقدية والشعب، أو سوء فهم وانعدام ثقة مثلما توجد هذه القطيعة أيضا مع السلطة.
ويرى الروائي بشير مفتي في حديثه لـ "عربي21" أن النخب الجزائرية تعيش اليوم غربتين، غربة مع الشعب، وأخرى مع السلطة، فلا أحد يقبل ذلك الدور النقدي للمثقف ولهذا تأثيره في الواقع أو الحراك ضعيف جداُ ومحدود للغاية والأمر يحتاج إلى وقت لإعادة الثقة للمثقف من طرف الشعب أولاً حتى يستطيع لعب دور ما في مسار بلد يحتاج أكثر ما يحتاج إلى نخب عقلانية، واعية بالمخاطر، ومؤسسة للآمال المستقبلية.
ولا يعتقد بشير مفتي بضرورة توجيه اللوم للحراك في موضوع تأخر الحوار، حتى وهو يرفع شعارات "راديكالية" من قبيل (يتنحاو قاع)، لأنه وبعيدا عن الجماعات التي تحاول أن توجه الحراك لصالحها، فإني مؤمن بنقاء الوجدان الشعبي عندما يرفض أو يقبل، عندما يقول "لا" للسلطة التي ليس له فيها أدنى ثقة لأنه جربها ويعرفها جيدا ويحس بأنها لا تخدم مصالحه بل تخدم مصالحها.. وهذا ما يجعله حذرا بطبيعة الحال في دعوات الحوار التي جاءت متأخرة ومع ذلك شخصيا لست ضدها، وأظن أن على الحراك، والذي لا استطيع التحدث باسمه كمثقف، أن يقبل بها على الأقل لفهم أي نوع من الحوار تريده السلطة.. لأنه إذا كان حوارا على طريقة كريم يونس فأظن أنه لن يذهب بعيداً، وإذا كان حوارا للامتصاص فقط فهو أيضاً مرفوض وكل من يتحاور كي يكون له موقع في السلطة مستقبلا مرفوض وخيانة لمطامح وآمال الشعب الجزائري التي دافع عنها كل هذه الشهور .
الحوار يصب الماء البارد على الجمرات
من جانبه يتصور الدكتور محي الدين عميمور، مستشار الرئيس السابق هواري بومدين، أن الدعوة العقلاينة للحوار التي أطلقها الرئيس الجديد، ستساهم في صبّ الماء البارد على الجمرات، منوها بوجود يقين شبه عام بأن الحراك يواصل انحرافه الذي بدأ منذ أكدت السلطات على إجراء الانتخابات، والقضية برأيه ليست في تحكم الشعبوية والشوفينية، فهذه تعني أن ما يحدث هو ردود فعل عصبية، وإنما وعلى ضوء اختفاء قيادات كانت تتزعم الصورة السطحية للحراك، أن هذه القيادات تحرك عناصرها في الشارع، وهي خبيرة في ذلك، لكي تضمن تموقعا في المرحلة المقبلة، انطلاقا من وعود الرئيس بالتحاور مع الجميع.
ويؤكد وزير الإعلام السابق الدكتور محي الدين عميمور لـ "عربي21"، أن السلطة تصرفت دائما بعقلانية، وإلى درجة أن هناك من يتهمها بالضعف، داعيا إلى عدم التعرض للتظاهرات، وأن تواصل السلطات ضمان سلميتها، وألا تكتفي بإعلان أسماء من يقبض عليهم بتهمة استفزاز الأمن أو اعتماد التخريب، بل يضاف إلى ذلك انتماءاتهم الجغرافية والحزبية لكي تتضح التوجهات أمام الجميع.
أما الدكتور جمال يحياوي فيرى ضرورة إقحام النخب الجديدة، في العملية السياسية خاصة التي تحمل أفكارا تخدم الوطن، مع العمل على تجاوز الطبقة السياسية التقليدية، التي أصبحت منبوذة بشكل كامل. ولن يتأتى ذلك إلا بالانفتاح على كل الكفاءات الوطنية التي لم تشارك في حكم العصابة، مع تغيير شامل يمس المؤسسات الإعلامية بوضع كفاءات وطنية هدفها تقديم صورة الجزائر الجديدة وليس خدمة أشخاص.
غير أن المؤرخ جمال يحياوي يتوقع في حديثه لـ "عربي21"، أن الحوار قد يفجر الحراك، خاصة بعد دعوة الرئيس، مشيرا إلى ظهور بعض النزاعات وبعض الانشقاقات داخل الحراك، وتحديدا بين أولئك الذين يبحثون عن المناصب والمكاسب في مختلف المراحل التي مرت بها الجزائر، وهؤلاء برأيه قد ينقسمون على أنفسهم وبالتالي ستكون نهاية الحراك.
الحوار يقضي على "الشوفينية"
من جهته يرى مدرب التنمية البشرية المعروف، الأستاذ كمال سعد الله، أن الحراك عموما أغلق على نفسه ودخل في سياق الشوفينية لما بدأ في تخوين وسب قيادة المؤسسة العسكرية، فانسحبت مجموعات كبيرة ترى عكس ذلك بأن المؤسسة كانت راعية للحراك بل وحمته من البداية، معتبرا أن رأيه كان من الأسابيع الأولى للحراك أن يتهيكل نشطاؤه في مجموعات وأحزاب ومبادرات تسهل على السلطة التحاور معهم .
أما الآن، فيرى الأستاذ كمال سعد الله، في حديثه لـ "عربي21" أن الكثير من نشطاء الحراك، يستجيبون للحوار الذي دعا له الرئيس عبد المجيد تبون. غير أن أهم الشروط التي تساعد على حوار جاد ومسؤول بين كل المكونات وتهيئة البيئة والأجواء ونزع فتائل التوتر فتتمثل برأيه في:
ـ إطلاق سراح النشطاء الذين لم تثبت في حقهم اتهامات وتجاوزات قانونية .
ـ فتح الإعلام العمومي والخاص أمام الجميع.
ـ دعم الآليات التي تشجع الشباب على ممارسة العمل السياسي والاهتمام بالشأن العام .
ـ الاستعداد لتغيير قانون الانتخابات ووضع آليات اكثر شفافية يرتاح لها الجميع .
ـ الإعلان عن أجندة الانتخابات التشريعية والمحلية .
ـ استعداد الرئيس تقليص عهدته إذا رأى الحوار الوطني الجامع .
على النخب إخراج الحراك من الرفض المطلق
أما الكاتب والإعلامي خليل بن دين، فيرى في مقاربته للمشهد الجزائري أن اكتمال الوعي الجماهيري بدخول الراهن العالمي من خلال ركوب قطار الديمقراطية كمنتج بشري للتداول على السلطة أصبح واقعا. وفي الجزائر ـ برأيه ـ لا يريد الجيش والشعب تكرار تجربة التسعينيات، وبالتالي فهما جاهزان بمعنى أو بآخر للانتقال الديمقراطي السلس، يضاف إلى ذلك ودون الدخول في النيات، يعبر الجيش دائما عن عدم وجود طموح سياسي لديه. في المقابل يشكل الحراك الجزائري حالة سلمية متفردة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن الديمقراطيات الغربية كانت متدرجة، فإنه من البديهي أن تكون كذلك، وإن بأساليب مختلفة في الجزائر والعالم العربي.
وهنا يطرح خليل بن دين في مقاربته لـ "عربي21" إشكالية قدرة الحراك على المساومة الإيجابية في أثناء الحوار، معتبرا أن الحراك الذي تَكوَّن من مشارب شعبية وفكرية وعقائدية مختلفة، كان ردة فعل قوية على عبث النظام القائم حينها، صحيح أنه قد برزت في الأثناء أسماء لشخصيات من داخل الحراك، سياسية وفكرية، ولكنها لم تستطع الوصول إلى إجماع على أرضية للمطالب، أو تشكيل قوة اقتراح فعالة. جرفت هذه الشخصيات أمواج الشارع التي سقطت في فراغ غلق التفاوض، وغياب أدوات التغيير لديها. في المقابل أصيبت السلطة بحالة إنكار للحراك، واستغلال لسلبياته الكثيرة.
بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد، بحسب خليل بن دين أصبح من الضروري (بدأ ذلك يتشكل في خطاب بعض رموز الحراك) على النخب التي غربلتها عشرة أشهر من الحراك، الخروج من حالة العدمية، والخطابات الشعبوية، وخطاب التخوين، وحتى حالات عنف محدودة، إلى التهدئة بعيدا عن الإيديولوجيا والجهوية، مع إعادة تكييف المطالب السياسية وتقديم البدائل الممكنة والتفاوض.
الحوار لا المفاوضات
ويعلن الدكتور أرزقي فراد صراحة، وهو الذي ظل يمشي وسط الحراك منذ انطلاقته كما يؤكد، أنه لا يعرف قيادة للحراك، لكنه يؤكد أنه بدأ يلاحظ أخيرا رغبة كبيرة في أوساط الحراكيين عمن يمثلهم، لأنه بعد مرور 10 أشهر من عمر هذا الحراك صار أمرا ملحا "فتمثيل الثورة الجزائرية زمن الاستعمار مثلا كان هناك فيه تحفظ في البداية لإبراز الممثلين عن الثورة.. ولكن في عام 1958 تم انشاء الحكومة المؤقتة.. وعليه نحن الآن في منعرج حاسم، بعد مرور كل هذه المدة، وبعد انتخاب رئيس جديد".
ويضيف المؤرخ أرزقي فراد في حديثه لـ "عربي21"، أنه بالفعل لاحظ مؤخرا إلحاحا من طرف الحراكيين لتنظيم حراكهم، وأن هناك من الحراكيين من يتحدث صراحة عن المعتقلين حاليا بسبب آرائهم ليكونوا النواة الأولى لممثلي الحراك، لكن تصوري أن التمثيل يجب أن يشمل كل الحساسيات والاتجهات".
ويرى الدكتور فراد أن السياسة هي فن الممكن في فلسفتها.. ويجب على الجزائريين تعلم احترام خيارات بعضهم البعض، بعيدا عن التخوين والشتم والتكفير.. الذي أدى إلى إضعاف الحراك.. كما أن هيكلة الحراك هو الطريق الوحيد للدخول في الحوار المنتظر، شريطة اتخاذ جملة من الاجراءات للتهدئة وعلى راسها اطلاق سراح المعتقلين.
ويرفض الدكتور أرزقي فكرة المفاوضات التي يطرحها البعض كبديل عن الحوار، لأن المفاوضات بالنسبة له تعني اقتسام السلطة، وأنا ضد هذا المفهوم، جملة وتفصيلا، كونه مصطلح خطير جدا، قد يؤدي إلى لبننة الوضع الجزائري.
سيف العدالة على رقاب النافذين العرب.. الجزائر نموذجا
"الشتات" الإخواني الجزائري.. في قلب معركة الرئاسة
الزوايا الصوفية في الجزائر.. هل تؤثر في انتخابات الرئاسة؟