على مدار نحو 3 سنوات في السلطة، أثارت إدارة دونالد ترمب كثيرا من الضجيج حول تنافسها أمام الصين على الصعيد الجيوسياسي، لكنها واجهت مشقة واضحة في تحديد الأهداف التي تسعى أمريكا وراء إنجازها من وراء هذه المنافسة. وعليه، فإنه من المشجع أن تبدأ وزارة الخارجية في تحديد ملامح فكرة واضحة عما تسعى الولايات المتحدة لمجابهته في منطقة المحيط الهادي الهندي، والأهم من ذلك، ما الذي تسعى لتحقيقه.
أما المبدأ الحاكم في هذا الأمر
فهو «التعددية»، الذي ربما يبدو جذابا للغاية، لكنه يشير إلى اختلاف محوري بين
الرؤيتين الأمريكية والصينية للمنطقة. واللافت كذلك أنها ترتبط بثلاثة من أثرى
التقاليد التاريخية للاستراتيجية الأمريكية الكبرى.
من جهته، شرح ديفيد ستيلويل، مساعد
وزير الخارجية لشؤون شرق آسيا والمحيط الهادي، استراتيجية التعددية هذه في خطاب
ألقاه في واشنطن، الأسبوع الماضي. ودارت الفكرة الرئيسية حول أن الولايات المتحدة
ليست بحاجة للهيمنة على منطقة المحيط الهادي الهندي، ولا إجبار المنطقة على
الالتزام بأي نموذج بعينه، طالما أنه ليس هناك جهة أخرى بمقدورها الهيمنة على
المنطقة أو إجبارها على الالتزام بنموذج محدد، هي الأخرى. ويشير مفهوم المنطقة
التعددية إلى منطقة تتمتع الدول في إطارها بحرية اتخاذ اختياراتها الأمنية
والاقتصادية والسياسية، حيث «تشعر هذه الدول بالأمن داخل استقلالها السيادي»
وأيضا «لا توجد قوى كبرى تهيمن عليها أو تقمعها»، بمعنى أن التعددية تتعلق
بالحفاظ على الحرية والانفتاح الذي يمكن التنوع في إطارهما أن يزدهر.
عمليا، يعني ذلك أن الولايات
المتحدة ستساعد دول منطقة المحيط الهادي الهندي في مواجهة الصين الصاعدة، التي
تحاول على نحو متزايد تضييق نطاق الخيارات المتاحة أمام هذه الدول، عبر استخدام
حملات نفوذ سياسي وضغوط اقتصادية وقمع جيوسياسي. وتعتبر جهود بكين لإلحاق الضعف
بالتحالفات الأمريكية، وتمويلها سياسيين موالين لها داخل دول بمختلف أرجاء
المنطقة، والتمدد الزاحف لنفوذها البحري في بحر الصين الجنوبي، وحشودها العسكرية
المستمرة، واستغلالها للقروض والاستثمارات كأداة سياسية، وكذلك العقوبات
الاقتصادية مثل فرض حظر ضد كيانات بعينها، جميعها جزء من هذا المشروع.
فيما يتعلق بواشنطن، فإن الإبقاء
على توازن سيتطلب إقامة علاقات ذات طابع فردي مع مجموعة متنوعة من الشركاء: حلفاء
ديمقراطيون ترتبط معهم بمعاهدات مثل اليابان وأستراليا، وآخرون يشكلون دولا ديمقراطية ناشئة مثل الهند، وأخرى استبدادية مثل فيتنام، وسنغافورة لا تتشارك مع
الولايات المتحدة في ميلها نحو السياسات الليبرالية في الداخل، لكنها ترغب في
الاحتفاظ بحريتها في التحرك داخل منطقة مزدحمة.
تستلزم التعددية كذلك رفض أي فكرة
تدور حول أن الولايات المتحدة ستلزم حلفاءها وشركاءها بقطع روابطها مع بكين. بدلا عن ذلك، ينبغي للولايات المتحدة معاونة شركائها على اتخاذ إجراءات احترازية ضرورية
لضمان عدم استغلال بكين تلك الروابط في تقويض سيادتهم الاقتصادية أو التكنولوجية
أو السياسية. بالتأكيد تكمن هنا بعض المشكلات. والملاحظ أن الخطاب الذي ألقاه
ستيلويل عمد إلى تضخيم أمر التعددية، التي تدور حول حرية الاختيار وتعدد الأقطاب
ووجود الكثير من مراكز القوى المتوازنة. ويبدو التصور الأخير أقرب إلى الرؤية
المفضلة لدى الصين عن الأخرى المفضلة لدى الولايات المتحدة، وذلك ببساطة لأن
الولايات المتحدة بحاجة إلى قوة صلبة كبرى لحماية التعددية داخل المناطق التي تبعد
عنها آلاف الأميال. إلا أنه بوجه عام، تطرح التعددية رؤية مفيدة لما تسعى الولايات
المتحدة لمنع الصين من فعله في منطقة المحيط الهادي الهندي ومختلف أرجاء العالم،
ومن المعتقد أنها ستروق لدول المنطقة التي يساورها قلق من القوة الصينية، لكنها
تشعر بالقلق من أن تطلب واشنطن منها بتر روابطها مع بكين على نحو يفوق ما ترغبه.
وتبدو فكرة التعددية جديرة بالدراسة لأنها تجمع بداخلها بين ثلاثة تقاليد بالماضي
الدبلوماسي الأمريكي.
أولا: المنع من الهيمنة، أو فكرة
أن المصلحة الجيوسياسية الجوهرية لأمريكا تكمن في الحيلولة دون سيطرة أي دولة
معادية على موارد بمناطق أجنبية تتسم بأهمية جوهرية، خاصة أوروبا وشرق آسيا والشرق
الأوسط. وتعود جذور هذه الفكرة إلى كتابات ضابط البحرية والمؤرخ ألفريد ثاير ماهان
في أواخر القرن الـ19، الذي أدرك بوضوح أهمية المحيط الهادي للأمن الوطني
الأمريكي. وكان هذا الحافز الذي دفع أمريكا للمشاركة في حربين عالميتين وثالثة
باردة خلال القرن الـ20.
اليوم، اكتسبت هذه الفكرة أهمية
جديدة. ورغم أن الصين لا تهدد بغزو أي من دول المحيط الهادي الهندي فعليا، فإنها
تسعى لاجتذاب هذه الدول إلى داخل مجال نفوذها الدبلوماسي والاقتصادي والسياسي،
وحرمان الولايات المتحدة من قدرتها على تحقيق توازن في مواجهة قوة الصين عبر إضعاف
العلاقات الجيوسياسية الأمريكية بالمنطقة. وتعكس التعددية بهذا المعنى تقليدا طويل الأمد يقوم على استخدام أمريكا قوتها العظمى، في الحفاظ على توازن للقوى في
مناطق محورية من العالم.
ثانيا: يتمثل تقليد آخر في حق
تقرير المصير، أو قدرة الدول المستقلة على تحديد مسارها دون قسر أو تهديد. وتعود
جذور هذه الفكرة إلى وودرو ويلسون، وتحولت إلى دعامة أساسية في استراتيجية أمريكا
الكبرى في أثناء الحرب العالمية الثانية. وتقوم على الإيمان بأن الحرمان من حق تقرير
المصير يقوض لب السلام الدولي ويهدد بدفع العالم إلى عصر الغاب.
ثالثا: يرتبط التقليد الثالث بفكرة يمكن وصفها بنموذج «العالم الحر» للدولة الأمريكية. في أثناء الحرب الباردة، لم تقصر الولايات المتحدة نفسها على العمل مع نمط واحد من الشركاء، وإنما كان العالم الحر متنوعا ويضم أنظمة ديمقراطية ليبرالية في أوروبا الغربية وبعض الأنظمة الاستبدادية المقيتة في العالم الثالث.
ورغم أن الولايات المتحدة كانت
مهتمة بمصير القيم الديمقراطية في العالم، وأصبحت أكثر قوة في دعم هذه القيم بمرور
الوقت، فإن مسؤوليها أدركوا أن المعيار الرئيسي للعضوية في العالم الحر يتمثل
ببساطة في الالتزام بمعارضة تلك الدول -الاتحاد السوفياتي وحلفاؤه- الذين يسعون
للقضاء على الحرية السياسية وحرية الاختيار الحقيقية من الساحة العالمية. ويظل هذا
أسلوب تفكير جيد فيما يخص منطقة المحيط الهادي الهندي اليوم، بالنظر إلى اتساع
رقعة وتنوع الدول والحكومات التي سيتعين على الولايات المتحدة التعاون معها.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية