بعد مرور عشر سنوات على انطلاق ثورات
الربيع العربي، يمكن القول إن
الثورة التونسية، بقدر ما كان لها دور مهم في إشعال
فتيل الثورات في
العالم العربي، بقدر ما أنتجت صورة زائفة عن كيفية إسقاط الأنظمة،
بعد أن هرب زين العابدين قبل اكتمال الشهر على انطلاق الثورة، بالإضافة إلى أنها
أورثت الثورات التالية إشكالية عدم وجود تقدير دقيق لقدرة الأنظمة
الاستبدادية
العربية ومدى خضوعها لثورات الشعوب.
الآن، ونحن على بعد عقد من انطلاق
العربي، ونغرق غالباً في تداعيات الثورات المضادة التي جاءت للرد على الربيع،
يمكننا أن نحدد بوضوح ماهية الخلل الذي يعود له السبب في إنتاج هذا الواقع. فلم
يعد مهماً مجادلة أن الأنظمة "انتصرت)" لأنها استخدمت أقصى درجات العنف.
كما لم يعد ذا قيمة القول إن الثورات العربية تعرضت لمؤامرة حاكتها أطراف حلف
إقليمي ودولي اعتبرت أن الثورة خطر على مصالحها ومصائرها، فثمّة واقع يقول إن الأنظمة
نجت من السقوط، وأننا محاصرون بالمآزق.
السؤال الذي يتحدانا ويطالبنا
بإجابة موضوعية اليوم: هل كنتم تعتقدون أن أنظمة حكمت لعقود طويلة كان من الممكن أن
تستسلم بسهولة لحراكاتكم وتنسحب تاركة المجال لكم؟
الجواب الطبيعي: لا، لأن هذه الأنظمة
تجذرت بشكل عميق بكل مناحي الحياة العربية، وتموضعت في الشوارع والمكاتب والمؤسسات..
اعتقلت الدولة ووضعت في جيبها مفاتيح محركاتها، وأصبح من غير الممكن الاستفادة من
النصر عليها، كما حصل في مصر، وحتى تونس، ما لم يتم الاستعانة بعناصرها، أي استعادة
سلطتها مداورة إلى حين الانقضاض على الثورة التي في الغالب ذات نفس قصير ويستعجل
جمهورها قطف النتائج، وإلا فأنتم لستم أفضل من أولئك الذين ثرنا عليهم.
أيضاً الجواب لا، لأن هذه الأنظمة خلقت
شبكات من المصالح ورّطت فيها بلوكات اجتماعية كبيرة، أصبحت بعد انطلاق الثورة
تشكّل عبئاً على تحركها.. ولا كبيرة، أيضاً لأننا انزلقنا إلى حيث تريد الأنظمة أن
تضعنا، في ملاعبها هي، من خلال تصوير الحراكات على أنها حراكات دينية. وليس ثمة
حاجة، عزيزي القارئ، لتعرف ماذا يعني الدين في نظر الخارج، الذي نتوقعه عاملاً
مساعداً لإسقاط الأنظمة!
الثورة مثلها مثل أي نشاط في
حياتنا، نجاحها يعتمد على عنصرين: معرفة كيف نستخدم إمكانياتنا المتوفرة في تحقيق أهدافنا،
وتصميم استراتيجية لنقلنا من الحاضر إلى المستقبل الذي نرغب في الوصول إليه.
وللمفارقة، فإن هذين العنصرين نستخدمهما حتى عندما نفكر بالقيام بنزهة بسيطة،
فلماذا لم نستخدمهما في أخطر حدث شهده جيلنا؟
لقد ساد اعتقاد خاطئ أثناء الربيع
العربي يتكون من شقين: أن الإيمان بالقضايا كاف لتحقيق الأهداف، وأن عدالة القضايا
نفسها كفيل بجعل حامليها ينتصرون، وكأننا لم نعش خيبة فلسطين لأكثر من ست عقود،
ورأينا كيف كنا نبكي خيباتنا في نهاية كل جولة" انتفاضة". هل يا ترى اعتقدنا
أن أنظمتنا العربية تختلف عن إسرائيل، وبالتالي تلك تجربة مختلفة لا داعي للاتعاظ
منها؟
إن تغيير الأوضاع الاجتماعية
والسياسية في بلد ما هو أمر فيه من التعقيد ما يفوق التعقيدات التي نواجهها في
حياتنا اليومية، ونستخدم تفكيرنا لمواجهتها والتغلب عليها، ونعترف بكل شفافية بأن
وقوعنا في تلك التعقيدات سببه غالباً تقديراتنا الخاطئة واستراتيجياتنا غير الصحيحة
لمنع حدوث هذه المأزق في حياتنا.
لا شك في أن الحماس عامل مساعد
للثورات، لكنه وحده عنصراً غير كاف، بل إن ضرره قد يفوق فوائده، إذا لم يتم تدعيمه
باستراتيجية بعيدة المدى، تخطط لكل مفصل من مفاصل الثورة، وتضع في الحسبان نقاط
قوة الطرف الآخر، والسيناريوهات التي سيضعها للمواجهة، واحتمالات نجاحه، وهذا بعد
دراسة نقاط ضعفه ومعرفة الخواصر الرخوة في جسده. وهذا يستدعي تحليلاً موضوعياً لكل
هذه المعطيات، وعدم التعامل برغبوية واستسهال الأمور، لأن الشعوب عندما تثور تدفع
فاتورة دماء عالية، ولا يجوز استسهال ذلك.
الأهم من كل ذلك أن استخدام
التخطيط الاستراتيجي في الثورات، يقلل من الفاتورة التي تدفعها الشعوب الثائرة،
كما يمنحها التخطيط القدرة على استثمار مواردها بأفضل طريقة، في مواجهة خصم متفوق
في الموارد والإمكانيات، طالما هو يجيّر الدولة، بأصولها ومواردها وأسلحتها
وعسكرها، لصالحه.
لعّل أقسى ما مرت به الشعوب
العربية في العصر الحديث هو أنها دفعت فواتير عالية لتشتري في نهاية المطاف أوضاع أكثر
سوءاً من تلك التي ثارت عليها، لماذا حصل ذلك؟ هذا السؤال برسم النخب العربية التي
لم تستطع قيادة المرحلة، أو أن تخطط لها بشكل سليم، وليس معلوماً ما إذا كان تعالي
هذه النخب عن الجماهير، أو عدم ثقتها بثوراتها، أو عدم امتلاكها للجرأة، هو ما
وضعها في هذا الموقف!