عندما كتبت في خانة التعريف بي: "ليبرالي على كتاب الله وسنة رسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان"، كنت أميّز نفسي عن منتحلي الصفة، ومن يمثلون جزءا من الحسابات الغربية، من النشطاء الذين عرفتهم
مصر بفترة الحراك السياسي في عهد مبارك، واستمروا إلى مرحلة ما بعد الثورة، من أفراد بلا مرجعية سياسية، وأرادوا تعريفاً آمنا. ثم إن هذا الانتماء لا يلزمهم بقراءة أو موقف، في زمن صارت فيه
الليبرالية أقرب إلى الناصرية عند أهل اليسار!
فليس مطلوباً منك لكي تكون ناصرياً أن تقرأ أو تكتب، فيكفي أن تعادي إسرائيل وتعلن انحيازك للفقراء لتنتمي للناصريين، وذلك على العكس من التوجهات اليسارية الأخرى، التي تحتاج إلى المزيد من القراءة، ولو للتراث اليساري من أفكار ماركس وغيره!
ولأن الناصرية لا تصلح مع النشطاء الجدد، فالانحياز لها يعني قطيعة مع الدوائر الغربية، فقد أعلنوا انهم ليبراليون. كما أن من بين الناصريين السيخ، من أمثال حافظ أبو سعده، وأصحاب "بوتيكات" حقوق الإنسان، من كان لزاماً عليهم إعلان أنهم انتقلوا لمعسكر الليبرالية، أو التماهي مع الصفة الجديدة، فكيف يكون المرء ناصرياً ثم يقبل تمويلاً من الاستعمار العالمي، بحسب خطاب عبد الناصر؟!
المذهب الحنفي:
والحال كذلك، فقد رأيت ضرورة تمييز نفسي عن هؤلاء بأني ليبرالي على كتاب الله وسنة رسوله ومذهب الإمام أبي حنيفة النعمان، وهي الصيغة المعتمدة في مصر في إشهار الزواج، وباعتبار المذهب الحنفي هو المذهب الرسمي للدولة المصرية. ولم أكن أعلم أنه سيمتد بي العمر، لأجد نفسي أمام تحد جديد، يتمثل في الإعلان أن الجنرال عبد الفتاح
السيسي هو ليبرالي أيضا! فماذا بقي من عسكريته، وهو الذي يمارس
الاستبداد ويدير اقتصاد الدولة بمنطق "تاجر البقالة"؟ والحال كذلك فأين ملامح ليبراليته؟!
عندما كتبت أستاذة للأدب الإنجليزي مقالاً هابطا عنوانه: "السيسي مفكراً"، اعتقدت أنه النكتة الأخيرة في هذه المرحلة، وقلت منافقة تبحث لها عن موضع قدم في "المولد" المنصوب، لكن أن يقول ياسر رزق أن السيسي ليبرالي، فهذا لعمري في القياس بديع!
للتذكير، فإن ياسر رزق ليس كأستاذة الأدب الإنجليزي، التي تجتهد ويحدوها الأمل في تلقي الثمن، فهو واحد من "أهل البيت"، وهو كليم السيسي ومفكره، وهو كاتبه الأوحد كما كان هيكل بالنسبة لعبد الناصر، وسمير رجب بالنسبة لحسني مبارك. ومعنى هذا الإعلان، أنه تم الاتفاق على التعريف السياسي للسيسي رسمياً بأنه "ليبرالي"، وأن الأمر تم بموافقة السيسي نفسه وربما هو ذلك!
مكانة ياسر رزق لدى السيسي، هي التي تقف وراء الاهتمام الواسع بمقالاته، وعندما كتب مقاله الأخير الذي يبشر فيه بالإصلاح السياسي، تم الاحتفاء بما كتب، واستضافه أحمد موسى ووائل الإبراشي في ليلة واحدة، لاستكمال مهمة التبشير بما يقول. وقد بشر بأن السيسي ليبرالي، فمتى صار كذلك؟!، وهل يعرف الرجل الذي اعترف بأنه ليس سياسياً؛ معنى الليبرالية وما ينبغي أن يفعله الحكم الليبرالي؟ ثم متى سمع بكلمة الليبرالية، ولا نرى منه إلا استبداداً غير مسبوق، وحكما عضوضاً؛ يقتل ويمارس القمع والحكم بالحديد والنار؟!
علماني وألماني:
وما هو الذي يميزه عن مسؤول قسم الحوادث بإحدى الصحف، وقد اتصل به المحرر ليخبره باغتيال الدكتور فرج فودة، ولم يكن قد سمع باسمه، فسأل المحرر عن أسباب قتله، فلما قال له: لأنه علماني.. سأله ويبدو أنه كان يسمع العبارة لأول مرة: وما دام ألمانياً فمن الذي جاء به من بلاده ليُقتل هنا؟!
فلم يجد المحرر أمامه إلا التفسير المبسط للمعني: علماني بمعنى كافر. ليكون القرار خذ الخبر على عمود في الصفحة الأولى، استهانة بمن تم اغتياله ما دام ليس ألمانيا، ولكنه علماني بمعنى أنه كافر!
إن المنتج الذي يقدمه السيسي في خطبه وبياناته، يكشف عن أنه لم يقرأ كتاباً، ولم يطالع رواية، ولم يمر ولو بمرحلة قارئ قصص الأطفال، فمتى سمع عن الليبرالية لتكون خياره الاستراتيجي؟!
لقد طالعنا ورقة الإصلاح السياسي التي يتبناها عبد الفتاح السيسي، سواء في المانفيستو (مقال ياسر رزق)، أو في شرحه، وإذا بنا في مواجهة خزعبلات. فبعد ثورة عظيمة، جاءوا ليكرروا ذات الخطاب المعتمد في زمن مبارك، وبتصرف في اتجاه الاستبداد وحكم العسكر. وقد كان مبارك عندما يتم الطلب منه أن يعين نائباً، يقول بأنه لم يعثر على الرجل المناسب، وأن السادات كان محظوظا بوجوده فاختاره نائباً له. ولا يوجد من بين المصريين أحد يصلح للمنصب أو لخلافته، مع أنه كائن يفتقد لأي مهارة أو امتياز، ولا يصلح ولو لرئاسة حي!
ولم تكن مثل بحاجة إلا لإزاحته لنكتشف أن هناك العشرات الذين يصلحون للمنصب، والمأساة أنه بعد هذا من يأتي ليقرر أنه لا بديل عن السيسي، فإذا لم يترشح تم ارجاع الأمر إلى أهله حيث مؤسسة الجيش باعتبارها المؤسسة الوحيدة القادرة على انتاج الرؤساء.. فمن قال ذلك؟!
وقد قال السيسي بنفسه إن هذه المؤسسة اختارت أفضل من فيها لحكم مصر، فإذا به هو الأفضل. فإذا كان هذا الفاشل المفرط في التراب الوطني والمغرق للبلد في الديون، والمبدد لموارده في بناء قصور لإشباع رغباته، هو الأفضل، فهل بعد كل هذا يظل من الطبيعي الحديث عن أن القوات المسلحة، هي الجهة الوحيدة التي يتم تخليق الرؤساء فيها، فبعد السيسي يرد الأمر اليها من جديد.. فمن فرضها وصية على الشعب صاحب الإرادة في الاختيار والعزل؟!
وقبل هذا وبعده، فهل من يتحدث عن أن الرئيس لا بد وأن يكون عسكرياً، يمكنه ينتحل صفة ليبرالي، إلا إذا كان الاعتقاد السائد عند العسكر ومن يمثلونهم أن الليبرالية هي نوع من أنواع الطعام، وقد يكون من مشتقات المحاشي؟!
فماذ يفعل مثلي بليبراليته أمام هذا الاجتياح العسكري والسطو على الليبرالية؟!
السيسي ليبرالي!.. يا لها من نكتة!