مؤشرات عديدة تدلل على أن الولايات المتحدة بدأت تنحى منحىً جديداً في ترسيم سياستها الخارجية في
الشرق الأوسط والعالم؛ باعتماد
استراتيجية مغايرة لتلك التي انغمست خلالها في المنطقة بكثافة عبر حروبها أو احتلالها للعديد من الدول مثل العراق وأفغانستان والصومال. في الواقع هذه السياسة ليست جديدة، فقد بدأت في عهد أوباما الذي أعلن عن توجهاته عام 2009، الرامية للانسحاب من أفغانستان والعراق، مُطلِقاً استراتيجية "إعادة التوازن" بالتوجه إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ. على نفس الخطى، لكن بوتيرة أسرع وبنطاق أوسع، سار
ترامب الذي أطلق شعار "أمريكا أولاً" خلال حملته الانتخابية، حيث أعلن مؤخراً عن انسحاب قواته من شمال سوريا، وأنه لم يعد بحاجة للتواجد في منطقة الخليج وأن لديه ما يكفيه من النفط والغاز.
كذلك، فقد بدت السياسة الانسحابية لواشنطن من خلال خروجها من العديد من الاتفاقات الدولية، كان أبرزها الاتفاق النووي الإيراني، ومعاهدة التجارة العابرة للهادي، واتفاق باريس للمناخ، وتجميد العلاقات الدبلوماسية مع كوبا، هذا فضلاً عن الإضرار بالعلاقات الوثيقة مع حلفاء الناتو، وإلغاء نهاية الحرب في أفغانستان، وتجاهل المحور الديبلوماسي مع آسيا وغيرها..
وهذا ما عكس بصورة من الصور تراجعاً نسبياً للدور العالمي للولايات المتحدة. فقد بيَّن استطلاع لمؤسسة جالوب شمل 134 دولة أن الزعامة الأمريكية قد تهاوت من 48 في المئة عام 2016 إلى مستوى قياسي بلغ 30 في المئة عام 2018، في حين بلغت النسبة 31 في المئة للصين و41 في المئة لألمانيا، أما روسيا فكانت نسبتها 27 في المئة.
على الرغم من ذلك؛ فإننا لا زلنا نتحدث عن انسحاب نسبي، بمعنى إعادة صياغة استراتيجية الهيمنة بأدوات أخرى، تتصف بتقليص التواجد العسكري، والاعتماد على وكلاء محليين، ووسائل أقل كلفة وأكثر ربحية تنسجم مع عقلية ترامب التجارية النفعية. فلا تزال مصالح الولايات المتحدة كبيرة في المنطقة، وعلى رأس هذه المصالح الكيان الصهيوني والنفط (رغم تراجع أهميه الأخير النسبية بحسب ترامب، وزيادة قدرة الكيان الصهيوني على الاعتماد على نفسه). لكن الواضح، على الرغم من ذلك، أن الولايات المتحدة بصدد صياغة مقاربة جديدة تعتمد على توظيف الانسحاب النسبي لتحقيق المزيد من ابتزاز دول المنطقة، لا سيما تلك التي تعتمد على الحماية الأمريكية، بالمزيد من عمليات شراء السلاح ومنظومات الحماية العسكرية والأمنية، وكذلك الاستفادة من تأجيج الصراعات المحلية التي تؤدي لإضعاف الجميع، وزيادة الحاجة للسلاح الأمريكي في ذات الوقت، وتقليص تكلفة الانتشار والتواجد العسكري الأمريكي على الأرض. الأخطر من ذلك، أن هذا الانسحاب سيؤدي إلى زيادة الاعتمادية على الكيان الصهيوني من قبل الدول الهشة، التي بقيت طوال العقود الماضية تتغطى بالحماية الأمريكية، ولم تسعَ لبناء قوة حقيقية تعتمد فيها على ذاتها، رغم امتلاكها مقدرات وثروات ضخمة، كانت كافية لبناء نهضة حقيقية لأية دولة لو امتلكت مشروعاً عملياً لذلك.
هذا الانسحاب الذي من المرجع أن يكون جزئياً تدريجياً وليس شاملاً؛ سيخلق اختلالاً في البيئة الاستراتيجية للعديد من الدول مثل السعودية، بما يشكِّل لها مأزقاً حقيقياً، لا سيما أنها تواجه فشلاً واسعاً في اليمن، وتراجعاً في قدرتها على مواجهة النفوذ والتمدد الإيراني، وانحساراً لجدوى حملاتها المضادة لثورات وطموح الشعوب، فضلاً عن استمرار معاناتها من تبعات جريمة اغتيال خاشقجي. في المقابل، سيشكل هذا الانسحاب فرصة كبيرة لزياد تمدد القوى الصاعدة والجاهزة والتي تمتلك رؤية استراتيجية ومشروع نهضوي، ومرونة وحيوية في الحركة لملء الفراغات الاستراتيجية. تمثل روسيا وتركيا وإيران أهم الدول الجاهزة للاستفادة من الانحسار الأمريكي، بما تمتلكه من مقدرات ورؤية وجهوزية للتوسع في الفضاءات المتاحة والساحات الرخوة، في مقابل دول عربية ليس من بينها ما يمكن أن تكون مرشحة لذلك، بل ستكون مرشحة لدفع الثمن السياسي والحضاري، لتخلفها وعدم جهوزيتها واعتمادها المزمن على الحماية الخارجية. فقد باتت واشنطن أقرب للتخلي عن حلفائها من حمايتهم، كما فعلت بأكراد سوريا؛ لأن سياسة ترامب تدور حيث دارت المصلحة، والمصلحة هي مع من يدفع أكثر، وأنه لا حماية لأحد بالمجان، فمن أراد الحماية فعليه أن يدفع ثمنها!
أما عن الكيان الصهيوني فإنه المرشح الأقوى لنيل ثقة الأنظمة الخائفة على عروشها، لنسج علاقات تطبيعية حميمية؛ أو قل ظهور هذه العلاقات على السطح بعد أن كانت في الخفاء، مع زيادة وتيرتها وحجمها. الذي سيدفع لهذا التوجه من قبل هذه الأنظمة، هو أن الكيان الصهيوني هو الأقرب للولايات المتحدة وهو أهم حلفائها، وهو أشبه بأن يكون امتدادً عضوياً لها، وبالتالي فمن غير المتوقع أن يثير هذا التقارب حفيظة واشنطن، في حين أن حالة الريبة والتوتر الشديد مع كل من إيران وتركيا لا تسمح بأي نوع من التقارب مع هذه الأنظمة، بل بالمزيد من تأجيج الصراع. أما روسيا فمن غير المرجع أن تحظى بدرجات عميقة من التقارب مع هذه الأنظمة نتيجة الفيتو الأمريكي الذي يحاول فرملة التمدد الروسي، وعمق ارتباط هذه الأنظمة بالهيمنة الأمريكية.
المشكلة المزمنة لدولنا (وهنا تقع المسؤولية الأولى على الدول الكبيرة) هي عدم امتلاكها لأي مشروع نهضوي حقيقي، ولا رؤية استراتيجية، واعتمادها المطلق على الحماية الأمريكية، ودخولها في صراعات داخلية وطائفية وحروب بالوكالة لصالح الدول الكبرى، الأمر الذي سيُبقي على حالة الفشل والانحسار في مقابل تمدد الآخرين. هذا الانحسار الأمريكي يجري في ظل ما يشهده النظام الدولي من ارهاصات تحول من نظام القطب الواحد إلى نظام متعدد الأقطاب، بعد سطوع نجم كل من روسيا والصين كفواعل قوية ومؤثرة على المسرح الدولي إلى جانب الولايات المتحدة، وهذا يزيد من مساحات الفعل والمناورة والفرص أمام الدول التي تتمتع بقدر كافٍ من الاستعداد والجهوزية، أكثر بكثير من فرص الدول الخاضعة لمبدأ الاعتمادية.
المَخرج يتمثل في صياغة مشروع نهضوي يعتمد على توظيف كافة مقدرات الأمة، وفق رؤية استراتيجية واضحة، وتخفيض حدة التباينات والتوترات، وصولاً لإنهاء الصراعات الداخلية، بالاتساق مع التاريخ والجغرافيا وحركة الحضارة، والاتكاء على الشرعية الشعبية، وامتلاك القدرة على التحلل من التبعية والحماية الخارجية، وصولاً إلى تحقيق نوع من الاستقلال السياسي والانعتاق الحضاري، وحجز مكانة لائقة بين الأمم.