من أمريكا للعالم العربي: ألتراس يعترض

تتصاعد بإيقاع سريع بلاغة الجمهور الرياضي عبر عواصم العالم، لتضيف رافدا غير مسيطر عليه حتى الآن من روافد المعارضة والرفض، فلم يكن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أول من واجه هتافات صاخبة تطالب بسجنه لدى ظهوره في استاد "ناشونال بارك" لمشاهدة نهائي دوري البيسبول في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي.

فقي السادس والعشرين من آب/ أغسطس عام 2016 جثى لاعب كرة القدم الأمريكية كولن كابيرنيك على ركبتيه، رافضا الوقوف لعلم دولته التي تقمع الملوّنين. ومحليا، وفي العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، لم يصعد نجم النادي الأهلي محمد أبو تريكة إلى منصة التتويج ولم يصافح المشير طنطاوي، رئيس المجلس العسكري الحاكم، اعتراضا على مذبحة بورسعيد التي راح ضحيتها 72 مشجعا ومئات المصابين.

في كلا المثالين الأخيرين لم يدر بخلد اللاعبين (كولن وتريكة) اللذين اعتصما بمبدأهما الإنساني أنهما يطلقان نمطا جديدا من الاحتجاجات البديلة عن الأنماط الكلاسيكية، وإن أصاب اللاعبين أذى.

فقد هاجم ترامب اللاعب في تغريدته مطالبا بطرده، فتعاطف معه زملاؤه اللاعبون في فريق فرانسيسكو إير، وفي أغلب الفرق، ثم تضامنت غالبية الجماهير والمشجعين، وظهرت حركة "اجثُ على الركبة" من أجل مناهضة العنصرية ضد الملونين.

أما "تريكة" فقد تفننت الدولة البوليسية في قمعه، بدءا من تلفيق التهم والحجز على أمواله، وشيطنته ووصمه بقائمة طويلة من الاتهامات، حتى توحدت روابط الألتراس في مصر والدول العربية معه، وأبدعت هي الأخرى في الدفاع عنه، ولا تزال بلاغة الجمهور الرياضي مستمرة.

في الدول القمعية كبلادنا البوليسية المنكوبة بالانقلابات والأنظمة العاجزة عن أي إصلاح أوتنمية أو تحرير، يكون الجمهور الرياضي (الألتراس) متنفسا للشباب الناقم على الأوضاع المتردية في شتى المجالات. وبعيدا عن هياكل الألتراس وتنظيماته وآلياته، فقد دخل الألتراس ميدان البحث العلمي كظاهرة مستجدة لافتة ومهيمنة، وأحدث مسارات مستجدة في علوم السياسة والاجتماع واللسان.

بلاغة الألتراس

قبل ظهور الألتراس في بداية الألفية الثالثة (وفي عالمنا العربي يؤرخ بـ2004) كانت هناك "البلاغة الرسمية"، وهي البلاغة التي أنتجها البلغاء والمنظرون الذين كانوا على وفاق مع الدولة، أو في موقع الخدمة لها، وكانت هناك بلاغة "غير رسمية" مقموعة في كتب البلاغة الرسمية، مسكوت عنها أو مهمشة تمتاز، بخطاب معارض للنظم السائدة ولا نلتفت إليها عادة، لكن بلاغة الألتراس شأن ثالث، كونها تجمع بين الهتاف والإشارة والعلامة.

لقد ظهر مؤخرا ما يسمى ببلاغة الجمهور الرياضي التي تدرس خطاب الألتراس العلاماتي والحركي والصوتي، بعد أنه فرض نفسه كظاهرة أنزلت علوم البلاغة التي كانت توصف بالعلوم الشريفة (لارتباطها بالنص المقدس والشعر) إلى دنيا الناس وما يتداولون على أرض الواقع.

ودراسة بلاغة الجمهور الرياضي تعني بالضرورة دراسة الاستجابات الجماهيرية المضادة لخطاب السلطة، وقد نجحت هتافات الألتراس المتكررة في تكوين صورة سلبية للحاكم العسكري، كما في النشيد المتكررة:

كان دايما فاشل في الثانوية..
يا دوب جاب 50%
بالرشوة خلاص الباشا اتعلم..
وخد شهاده بـ100 كلية
ياغراب ومعشش جوا بيتنا..
بتدمر ليه متعة حياتنا
مش هنمشي على مزاجك..
ارحمنا من طلة جنابك

ويتخذ الألتراس من المدرجات منصة إذاعية مجانية، مستغلا بث المباريات لتوصيل رسائله، سواء الكروية أو حول ناديه أو مواقفه الوطنية، أو مواقفه في الشؤون الخارجية، كما يستخدم الألتراس الأناشيد غير الموزونة ولكنها مقفاة، ليسهل حفظها، وتعتمد على الجمل البسيطة والواضحة التي يسهل فهمها لجميع المراحل والأعمار.

ويبدع الألتراس في ابتكار وسائل مختلفة، مثل البيانات التي غالبا ما تكون لتحديد موقف ما، مثل موقف الألتراس المصري من المستشار مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك المصري الذي يناصبه العداء. وقد وصفته الروابط الجماهيرية بالطرطور الفاشل، أو من خلال الهتاف الجماعي المرمز والمكنى بالسباب، أو السباب الصريح من المدرجات، مثلما حدث مع أحد الخليجيين "طال عمره" بألفاظ نابية حادة، دفاعا عن وطنية القرار الرياضي واستقلاله.

ويتحد النظام القمعي في دولنا العربية مع إداريي النوادي بغرض تحجيم دور الالتراس، وإقامة ألتراس بديل على مزاجهم، وهو ما فشلوا فيه حتى الآن.

ويكاد يكون الألتراس التنظيم الوحيد المتفلت من يدي السلطات، بعد تحكمها على كل التنظيمات الحزبية وتحويلها لتنظيمات ورقية.