راكمت القوى الدولية، وأجهزة استخباراتها المحترفة، خبرة طويلة في تنويع أدوات الضغط والتغيير والتأثير على الدول الأقلّ منها قوّة واستقلالية، ومن تلك الأدوات افتعال الفوضى وصناعة الرموز وتحريك قطاعات شعبية، وما شابه، ولا يخلو التاريخ الحديث والجاري من أمثلة على ذلك.
بيد أنّ هذه الحقيقة، تجري إعادة تدويرها في عالمنا العربي، ومنطقتنا عمومًا، بصورة مبتذلة، تكاد تُصوّر تلك القوى محض آلهة، وشعوبنا محض كائنات روبوتية "سفاراتية" (من سفارات)، تُشغَّل دائمًا من الخارج!
اتهام المعارضة
خطاب السفارات، واتّهام كلّ حالة شعبية واسعة معارضة للأمر الواقع في بلادنا؛ بأنّها صنيعة لقوى دوليّة وإقليميّة، لا يقتصر على ذلك فحسب، وإنّما يستبطن بالإضافة إلى ذلك، نفيَ الآدمية عن الناس، أيْ إنكار احتياجاتهم الإنسانية التي قد تدفعهم للتمرّد على الأوضاع القائمة، حتّى لو أفضى تمرّدهم إلى خلخلة الاستقرار والدخول في حالة من الفوضى، فلا شكّ أن المتظاهرين في العراق ولبنان، لا تغيب عنهم مآلات أحداث بدأت مشابهة في سوريا واليمن وليبيا وغيرها، وهم بالتأكيد لا يطلبون تلك المآلات، ولكنّهم في الوقت نفسه يدركون أن عفن الواقع المستقرّ وفساده أكثر شرًّا من حالة ديناميكية تجعل من احتمالات التغيير أوسع، حتّى وإن لم تخلُ من احتمالات الفوضى، وافتقرت لليقين المستقبلي.
من الواضح تمامًا أنّ الفاعلين التقليديين، لم يُدركوا مُسبّبات الموجة الأولى من الثورات العربية، فأعادوا سياسات احتقار الإنسان
الدولة العربية
صحيح؛ الدولة العربية، دولة ما بعد الحرب العالمية الأولى، راكمت كلّ الأسباب الممكنة الداعية للخروج عليها، فعلى تعدّد الأنظمة والأيديولوجيات والسياسات التي تعاقبت عليها فقد فشلت في تحقيق وعودها، فلا هي أنجزت الاستقلال الوطني الكامل، ولا نهضت بتنمية اقتصادية وعلمية حقيقية، ولا ابتكرت أنظمة مقنعة لتداول السلطة، ولا جعلت الدولة لكلّ مواطنيها، ولا حرّرت فلسطين، ولا جمعت العرب في مشروع واحد، ولا حَكَمَتْ بالشريعة فعلاً، وهكذا، على تعدّد صور تلك الدول وشعاراتها، فقد فشلت في كلّ شيء، إلا أنّ قهرها للإنسان الذي فيها، وتسلّطها عليه دون أن تعطيه حقوقه، والإنكار العملي لآدميّته، وفرض الغربة عليه في وطنه، وحصره على هامش النخبة الراتعة في "عزبة الوطن".. هو الدافع الأقوى لتمرّده على هذه الدولة.
يُضاف إلى هذه القوى التقليدية، القوى التي التحقت بها تاليًا، أي تلك المعارضات، التي رفعت شعارات هي في الغاية من الرسالية والأخلاقية، والتأكيد على حرّية الإنسان وحقّه في الثورة والتمرّد لتحقيق كرامته الآدميّة، كالأحزاب الإسلامية الشيعية العراقية، وحزب الله في لبنان، وحتمًا من قبل الثورة الإيرانية، والحركة الإسلامية في السودان، وغيرها، وقد سبقتها إلى ذلك قوى قوميّة ويساريّة انصهرت في "البوط العسكري"، وابتكرت لذاتها معنى بعد سقوط أيديولوجياتها من خليط ما يُعرف بمحور المقاومة. هذه القوى أعادت استنساخ السياسات التي تمرّدت عليها لصالح مشروعها السياسي، فلم ترَ في الدواعي الآدمية لخروج الجماهير إلا خطرًا سياسيًّا مدفوعًا من الأعداء، والحقّ ُأنّ أكثر من تفنّن في تدوير هذه اللغة في وجه الجماهير التي يراها خطرًا على مشروعه السياسي، هي الكيانات التي تستتر بشعار المقاومة، سواء اتّصلت بالشعار عضويًّا أم كانت من ضمن تحالفاته السياسية أو المعنويّة، كشأن بعض الذين لا يقاومون، أو لم يقاوموا يومًا!
الدولة العربية، دولة ما بعد الحرب العالمية الأولى، راكمت كلّ الأسباب الممكنة الداعية للخروج عليها،