تشهد العاصمة العراقية بغداد، فضلا عن محافظات أخرى، مثل ذي قار والقادسية والنجف، وربما محافظات أخرى، حركة احتجاجات معلنة هذا اليوم، الجمعة 25 تشرين الأول/ أكتوبر. وقد تم الاتفاق على هذا اليوم بعد أن تم التعامل بقسوة مفرطة، حد الإعدامات الميدانية، مع الحركة الاحتجاجية التي بدأت في الأول من الشهر نفسه، والتي أوقفتها زيارة الأربعين (تقليد شيعي مرتبط بوفاة الإمام الحسين بن علي عليه السلام).
وقد زاد التقرير الذي أصدرته اللجنة التحقيقية
التي شكلها رئيس مجلس الوزراء عادل عبد المهدي من حدة الغضب والسخط، خاصة في ظل النتائج
الهزيلة التي خرج بها التقرير. وكانت هذه اللجنة استجابة لطلب صريح من المرجع
الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في خطبة الجمعة يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر،
الذي طالب الحكومة والجهاز القضائي بإجراء تحقيق «يتسم بالمصداقية» والكشف عن
العناصر التي أمرت أو باشرت بإطلاق النار على المتظاهرين. ولكن مراجعة التقرير
تكشف عن محاولة صريحة للتدليس والتغطية على الجرائم والانتهاكات التي حدثت أكثر
منها الكشف عنها!
فاللجنة الوزارية العليا كانت مهمتها «التحقيق
عن كيفية سقوط أعداد كبيرة من الشهداء والمصابين في محافظة بغداد والمحافظات
الأخرى»، لمعرفة «المقصرين والتوصيات الخاصة بذلك»! وهو ما يفضح وجود «قرار مسبق»
بعدم تجريم أحد، بدليل الحديث عن «المقصرين» وليس عن المتهمين! وبأن ثمة قرارا
مسبقا بالاكتفاء بالبحث عن أكباش فداء وليس عن الفاعلين الحقيقيين، سواء من أعطى
الأوامر، أو من نفذها. هكذا لم تستطع اللجنة إقناع أحد بأن سقوط «149» ضحية
بإصابات مباشرة في الرأس والصدر، و«4207» جرحى بين المحتجين، وفق الإحصاءات
الرسمية، كان مجرد «حادث عرضي»! وأنه «لم تصدر أية أوامر رسمية من المراجع العليا
إلى القوات الأمنية بإطلاق النار اتجاه المتظاهرين أو استخدام الرصاص الحي مطلقا»،
وان كل هذا العدد الكبير من الضحايا والجرحى كان بسبب ضعف القيادة والسيطرة، وعدم
وجود ضبط نار، ومجرد «إجراءات فردية من قبل المنتسبين»، تم «استغلالها من البعض
لتأجيج الرأي العام ضد الحكومة والقوات الأمنية»!
وبالتأكيد لا يمكن لي أن أفهم طبيعة العقل
الذي كان خلف صياغة عبارات مثل: «قيام البعض بمنع حركة عجلات الإسعاف من إخلاء
الجرحى وقطع الطرق والرمي عليهم مما أدى إلى زيادة حالات الوفيات والإصابات
الخطرة»، من دون أية محاولة لتشخيص أو توصيف هذا «البعض»! أو: «تأشر وجود موقع
للقنص في إحدى هياكل الأبنية المتروكة… والعثور على ظروف فارغة من عيار 5.56 ملم
(عتاد سلاح إم فور الأمريكي)» من دون أي «حرص» على تحديد هذا القناص المحصن! أو :
«قيام عناصر مسلحة بالاعتداء على القنوات الفضائية وقد تم إلقاء القبض على عدد
منهم» من دون الإشارة إلى طبيعة هؤلاء، أو طبيعة ارتباطاتهم ومرجعياتهم!
لم تستطع اللجنة إقناع أحد بأن سقوط «149»
ضحية بإصابات مباشرة في الرأس والصدر، و«4207» جرحى بين المحتجين، وفق الإحصاءات
الرسمية، كان مجرد «حادث عرضي» أو التوصية المضحكة بإجراء «التدقيق الأصولي
حول كميات العتاد المصروفة من قبل الوحدات الميدانية التي شاركت في حماية
المتظاهرين»! على الرغم من هكذا تدقيق كان يجب أن يكون على سلم أولويات لجنة
التحقيق، لمعرفة «كيفية» حصل ما حصل، خاصة أن هذا الأمر سيثبت بما لا يدع مجالا
للشك أن ثمة قرارا مركزيا، وعلى أعلى المستويات، قد صدر باستخدام العتاد الحي ضد
المحتجين، وأن كميات العتاد المصروف دليل قاطع على ذلك! أو الحديث عن «عدم قيام
هيئة الإعلام والاتصالات باتخاذ الإجراءات القانونية تجاه القنوات الفضائية
المحرضة ومواقع التواصل الاجتماعي التي تبث الكراهية والعنف»، في «تسويغ» غير
مباشر للهجوم على وسائل الإعلام! على أن العبارة الأهم في هذا التقرير/المهزلة هو
أن تجمع المتظاهرين في مناطق سكناهم، بسبب «قيام القوات الأمنية بتحديد حركة
المتظاهرين كي لا يصلوا إلى ساحة التحرير»، قد أدى إلى «حالة من الاستياء الشعبي
بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية»!
ليتمخض التقرير في النهاية عن جملة توصيات، من
بينها: إعفاء 4 قيادات عسكرية، و2 من قيادات الشرطة الاتحادية، و1 من قيادات
الشرطة المحلية. مع إعفاء ومجالس تحقيقية ضد عسكري في اللواء الخاص برئاسة
الجمهورية تبين أنه لم يكن موجودا في بغداد أصلا أثناء المظاهرات، وأن المجلس
التحقيقي كان بسبب عدم التحاقه بالواجب بعد الطلب منه ذلك! مع 2 من قيادات الجيش،
وقيادي 1 في قوات التدخل السريع التابعة لوزارة الداخلية! أي في النهاية مجرد
إعفاء، أو إعفاء ومجالس تحقيقية ذات طبيعة إدارية ضد (11) فردا بعد حصيلة من
الضحايا في بغداد بلغت (107) ضحايا، و 2458 جريحا! وهو ما يعطي صورة حقيقية عن
طبيعة هذا التقرير/ المهزلة!
تعتمد السيناريوهات المحتملة لاحتجاجات اليوم
الجمعة على جملة معطيات: من بينها أعداد المحتجين، وطبيعة الانتشار الجغرافي لحركة
الاحتجاج، وطبيعة تعاطي القوات العسكرية والأمنية معها، وحدود المواجهات التي يمكن
أن تحصل في حال إصرار المحتجين على الوصول إلى أهداف محددة (من بينها المنطقة
الخضراء أو السفارة الإيرانية)، وأخيرا الامتداد الزمني لها، وإمكانية وصولها إلى
حركة عصيان مدني.
كما تبدو الإمكانيات التي قد تعمد إليها سلطات الدولة محدودة هي الأخرى، فاستقالة الحكومة على سبيل المثال لن يحل شيئا، لأن مجلس النواب، الذي يفترض أن يشكل حكومة جديدة خلال 30 يوما بموجب الدستور، يتعرض هو نفسه لاتهامات تزيد ربما عن الاتهامات الموجهة للحكومة! وليس ثمة إمكانية للحديث عن حكومة «مؤقتة» لمعالجة الأزمة القائمة، لأن هكذا حكومة لن تأتي إلا عبر مجلس النواب القائم نفسه، وستكون محكومة بعلاقات القوى المهيمنة داخله، وبمصالح الفاعلين فيه! أخيرا تبدو فكرة الانتخابات المبكرة مستحيلة تماما، لأن لا أحد من أعضاء مجلس النواب على استعداد للتصويت على حل المجلس، وبموجب الدستور مجلس النواب هو صاحب الاختصاص الحصري بحل المجلس بأغلبية الثلثين!
في ظل حالة الانسداد السياسي القائمة، وفي
سياق الإصلاح المستحيل الذي تحدثنا عنه في مقالنا الأسبوع الماضي، وفي ظل حالة
الغضب والإحباط التي تسيطر على المجتمع بالكامل، وبسبب الرفض الذي أظهره المحتجون
للطبقة السياسية بالكامل، والذي تجاوزها ليطال إيران والقوى المحسوبة عليها، والتي
كانت إلى وقت قريب لا تنعت إلا بالمقدسة، تبدو إمكانية المناورة محدودة لدى
الطرفين، المحتجين والدولة، وهو ما يجعل الأمور مفتوحة على جميع الاحتمالات!
(القدس العربي)