يمر الإنسان بمرحلتين خلال حياته، الأولى وهو صغير يكون معتمدا اعتمادا كاملا على والديه، وهو أمر طبيعي حتى يكبر ويصل إلى حالة الفطام النفسي، ويتحمل مسؤولية نفسه وغيره من أسرة وعمل وصولا إلى تحمل مسؤولية دولة، لكن حالة الفطام النفسي هذه قد يرفضها البعض، ويجدون صعوبة في الوصول إليها، ومن ثم يظل طفلا حتى لو كان في سن الخامسة والستين، فتجده يخطئ ويعاند ولا يسمع الكلام ويبرر أخطاءه. والمبررات هنا ما هي إلا إلقاء مسئولية الخطأ على غيره، كما كان حاله وهو صغير.
في معرض تعليقه على أزمة فشل المفاوضات بين
مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، قال رأس النظام المصري إنه لولا ما حدث في 2011، ويقصد بالطبع ثورة يناير المجيدة، لتم التوصل إلى اتفاق في ما يخص السد الإثيوبي، بالتوافق بين البلدين. واعتبر
السيسي أن ثورة يناير كشفت ظهر مصر وعرت كتفها، على حد وصفه، وهو ما أضعفها وجعلها لا تستطيع وقف أعمال السد الإثيوبي الذي سيصل بمصر لحالة الجفاف التام خلال السنوات الثلاثة القادمة.
ولن أضيع سطور هذا المقال في تفنيد أن الثورة لم تكن يوما من الأيام كاشفة لظهر مصر، ولم تضعف مصر بأي حال من الأحوال، ولن أسأل قائد الانقلاب وقد كان رئيس المخابرات الحربية التي أوكل لها ملف الأمن الداخلي، متعديا جهاز أمن الدولة وجهاز المخابرات العامة. بمعنى آخر، لو تكشف ظهر مصر فهو المسؤول عنها، لكن العكس هو ما حدث، فزيارة وفد الدبلوماسية الشعبية المصرية لإثيوبيا بعد أشهر من الثورة كان لها أثر كبير عند الأشقاء في إثيوبيا، وأخذوا وعدا من رئيس الوزراء الإثيوبي حينها، مليس زيناوي، بأن المشروع لن ينجز إلا بتوافق مصري- إثيوبي. ولن أذكر أن التقارير التي كانت ترفع للرئيس مرسي في أغلبها مضللة، ولن أتحدث عن خيانة الأمانة بإعطاء الأمر للتلفزيون المصري ببث الاجتماع المغلق الذي عقده الرئيس مرسي مع القوى السياسية للنظر في كيفية التعامل مع أزمة السد، ولا مجال هنا أن أذكر السيسي أن الاتفاق الإطاري الذي وقعه هو ما أضاع حق مصر في حصة
النيل التاريخية.
المقال هنا يريد الوقوف على ما هو أبعد من ذلك، فيريد الوقوف على كينونة الثورة المصرية المجيدة في وجدان وعقلية السيسي، ومن أي منطلق يراها ومن أي منظور يتعاطى معها، على خلفية تكوينه النفسي، ونموه المعرفي والاجتماعي.
تصميم السيسي إهانة ثورة يناير ورموزها واعتقالهم وتلفيق التهم تلو التهم للإبقاء عليهم في السجون وحبسهم لمدد طويلة، وآخرهم إسراء عبد الفتاح التي تعاني التعذيب الآن في السجن بعد اختطافها من سيارتها وضربها ضربا مبرحا وتعرضها للخنق باستخدام قميص لف على وجهها، ثم إجبارها على الوقوف قرابة الثماني ساعات وهي مقيدة اليدين فوق رأسها قبل تقييدها بالأعمدة، وتم عرضها لاحقا على النيابة بتهمة الانضمام إلى جماعة إرهابية ونشر أخبار كاذبة وإساءة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي.. كل هذا إنما هو جزء من كثير يتم مع رموز يناير، مبعثه التغذية المعرفية التي يتلقاها من كل من قادة الإمارات والسعودية، أعداء الثورات الشعبية في العالم العربي. وما كان ليتلقى السيسي هذه التغذية إلا لأن الرجل أبسط من أن يكون رؤية لنفسه يمكن السير عليها، فالرجل الذي أقسم على احترام الدستور مرتين، خان الدستور بسيره وراء التغذية المعرفية للإمارات والسعودية، ببساطة لأن هذا الدستور ينص على أن يناير ثورة مجيدة وامتداد لمسيرة الشعب الثورية منذ فجر التاريخ.
إشكالية السيسي أبعد من عدم إمكانيته من تكوين رؤية، بل تمتد إلى النشأة، فالرجل منعدم الموهبة، ويظهر ذلك في ارتجاله أثناء الأحاديث أو الخطب التي يدلي بها، وهو ما يعني أنه لم يجد الاهتمام ليهمل بالنتيجة بين إخوته وأقرانه، وهذه الشخصية غالبا ما تبحث عمن تختبئ ورآها، فوجد ضالته في عباس كامل، ثم محمد بن زايد. وغالبا ما تكون هذه الشخصية محط شفقة من الأبوين ومن ثم فإنه لا يخرج من حالة الفطام النفسي، فيبحث دوما عن مبررات يهرب بها من أخطائه. والكارثة ليست في سد النهضة، وإن كانت كارثة كبرى، ولكن الكارثة الأكبر لو تركت هذه الشخصية تتصرف كما تريد، فقد يبيع الأرض كلها كما فعل في تيران وصنافير، ويجهز لبيع سيناء بعد إخلائها.. الكارثة أن يستيقظ أهل القاهرة يوما ليجدوا أن شوارعها تتحدث العبرية بعد أن يستلم المشتري عقده.