ما بين بغداد وبيروت روح جديدة سرت وتصاعدت، لكنها لا تزال على المحك، ولا تزال في بداياتها، ولا يمكن التنبؤ بمآلاتها، ولا بقدرتها على تغيير الأوضاع
الطائفية المتجذرة، والمدعومة بقوى سياسية واجتماعية كبرى وازنة.
خرج كلا الشعبين
العراقي واللبناني، بصوت واحد ضمن الموجة الجديدة للربيع العربي رفضا للفساد والإفقار، وسوء الإدارة التي تنعكس سلبا على كل المواطنين من كل الطوائف والمذاهب بلا تفرقة، ولذلك فقد توحدث فئات الشعب المختلفة تحت علم واحد وهتافات واحدة ضد تلك السياسات، وطالبت بإسقاط حكومتي العراق ولبنان بكل مكوناتهما (دون انحياز لطائفة على حساب أخرى).
وعلى الرغم من أن مطلب إسقاط الحكومة الذي رفعه المتظاهرون في ساحة التحرير في بغداد وساحة رياض الصلح في بيروت؛ يبدو صعب المنال في ظل التركيبة الطائفية القائمة، وتدخل القيادات المتحكمة في قرار بعض الطوائف لصالح إبقاء الحكومة هنا أو هناك، إلا أن كلا الشعبين حققا مكسبا سياسيا وثقافيا مهما جدا، وهو إحداث شرخ كبير في جدار النظام الطائفي الذي يحكم كلا البلدين والقائم على المحاصصة الطائفية، وهي المحاصصة التي وفرت حماية للفساد وسوء الإدارة، حيث يهرع في ظله ممثلو كل طائفة للدفاع عن أي فاسد منهم. ويحاولون تصوير الاقتراب منه بحسبانه حربا ضد الطائفة، وبذلك ينجو الفاسدون من الحساب، ويدفع الشعب فاتورة هذا
الفساد الذي يستشري متسببا في المزيد من المعاناة له.
كان مظهرا جديدا كليا أن يخرج العراقيون الشيعة والسنة، واللبنانيون الشيعة والسنة والمسيحيين والدروز، ضد قرارات رفع الأسعار ونقص الخدمات وفرض الضرائب وتفشي الفساد بين الطبقة السياسية الحاكمة، والتي تسند ظهرها إلى نظام تقسيم طائفي في كلا البلدين. وكان من هتافات المتظاهرين في بغداد "إخوان سنة وشيعة هذا الوطن ما نبيعه"، كما حرص متظاهرو
لبنان على تأكيد وحدتهم من كل الطوائف في مواجهة الحكومة بكل مكوناتها أيضا (وهي حكومة وحدة وطنية تضم ممثلبن لكل مكونات المجتمع اللبناني).
هذا المظهر البديع الرافض للنظام الطائفي سبب قلقا كبيرا لقادة الطوائف الذين يستمدون شرعيتهم، أيضا مكاسبهم الكبيرة من تمثيلهم لطوائفهم، ولذا وجدنا بعض الأصوات من الوزن الثقيل تحاول جر الشارع إلى الطائفية مجددا، مثل زعيم حزب الله السيد حسن نصر، وزعيم التيار الوطني الحر (مسيحي ماروني) جبران باسيل، فكلاهما شريكان أساسيان في الحكومة الحالية، ووزراء كل طرف مسؤولون عن جانب كبير من حالات الفساد وسوء الإدارة، ولذا فإن قادة التيارين يريدان التغطية على رجالهما في الحكم، ولا يجدان في مواجة انتفاضة شعبية عارمة سوى تحريك ورقة الطائفية. وهي بالتأكيد ورقة خطيرة في مجتمع لا يزال هشا طائفيا، ولا تزال القوى الطائفية حاضرة بمالها وسلاحها، وقناصتها التي تستهدف المتظاهرين، كما حدث في العراق مؤخرا، وقد يتكرر في لبنان.
وحتى نعرف عمق النظام الطائفي في لبنان تحديدا، لنرجع إلى الوراء، حيث برز هذا النظام مع تراجع نفوذ الخلافة العثمانية، وهو ما سمح لبعض الدول الأوربية بالتدخل في لبنان بحجة حماية المسيحيين، حيث رعت فرنسا الطائفة المارونية، ورعت روسيا الطائفة الأرثوذكسية، ورعت النمسا الطائفة الكاثوليكية، ورعت إنجلترا الدروز، وبقيت الطائفتان السنية والشيعية في رعاية تركيا. وبناء على ذلك تم تشكيل متصرفية جبل لبنان.
وحين وافقت فرنسا على استقلال لبنان عام 1920 فقد راعت الطوائف في تركيبة المجالس دون النص على ذلك في دستور 1926، ورغم المحاولات المتكررة لإلغاء الطائفية إلا أنها باءت جميعا بالفشل، بل توحشت الحالة الطائفية إبان الحرب الأهلية (1975-1989). ورغم أن اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية حرص على التخلص من الطائفية، واضطر إلى الإبقاء على بعض المحاصصات في المواقع العليا واعتبارها أمرا مؤقتا، إلا أن هذا "المؤقت" أصبح "دائما" ومترسخا، ولم تفلح أي جهود تالية في إلغاء الطائفية الواقعية، ولم يستطع أحد تطبيق النص الدستوري الذي يقضي بإلغائها.
يلعن القادة السياسيون الطائفية ظاهرا ويتمسكون بها إلى النهاية واقعا، حتى يحافظوا على مكاسبهم السياسية والمادية، وحتى يستطيعوا مواجهة المخاطر المهددة لهم من حمل بعض الطوائف سلاحا أقوى من سلاح الدولة ذاتها، ولذلك فإن المخاوف تتضاعف على الحراك الجاري حاليا في لبنان وهو في مظهره العام معاد للنظام الطائفي، وهاتف بإسقاط الحكومة الحالية التي جاءت نتيجة محاصصات طائفية وسياسية تحت عنوان حكومة الوحدة الوطنية، وما يذكي هذه المخاوف هو تلويح حسن نصر الله زعيم حزب الله بنزول أتباعه إلى الشارع لقلب المعادلة وقلب الطاولة على الحراك الحالي الذي يمثل خطرا على المشروع الذي يمثله في لبنان وفي المنطقة عموما.
مزج الكثيرون بين الجد والهزل في نظرتهم للحراك اللبناني، ووصفوه بأنه "ثورة الواتساب". وبعيدا عن التبسيط، فإن جملة الضرائب التي فرضتها الحكومة مؤخرا، بما فيها الضريبة على استخدام برنامج واتساب؛ كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، إذ لم يعد الشعب اللبناني قادرا على تحمل المزيد من الأعباء، بينما يرى قادته السياسيين وعائلاتهم ومحاسيبهم يعيشون أفخم عيشة، ويسبحون في بحور الفساد دون أن تطالهم يد القانون بحكم عصبيتهم الطائفية، ولم يبق في قوس اللبنانين منزع، فخرجوا للشارع على النحو الذي رأينا ليطلقوا صرخة داوية على الأقل في وجه هذا النظام.
ليس متوقعا أن ينجح الحراك العراقي او اللبناني في إسقاط الحكومتين في كلتا الدولتين، لكن ما حدث حتى الآن يمثل بداية جيدة لطريق طويل في مواجهة النظام الطائفي البغيض الذي يحمي الفساد والفقر والجهل وسوء الإدارة، ومع تنامي الوعي المجتمعي بخطورة الطائفية على حياة الناس ومعاشهم، فإن الحماس لها سيتراجع تدريجيا، وسيشمل هذا التراجع فئات أوسع وساعتها سيكون الخلاص منها أمرا سهلا. وكما قال البطرك اللبناني السابق نصر الله صفير، فإن نزع الطائفية يكون أولا من النفوس وليس من النصوص.