في عهد الدولة الحسينية من القرن التاسع عشر كانت الأيدي العاملة التونسية تشتغل أساسا بالفلاحة، إلى جانب عدد من الحرف اليدوية البسيطة، في ظل اقتصاد وطني ضعيف جاهدا يحاول النهوض مثقلا بأزمات اقتصادية كبيرة، وكانوا هم من صغار الحرفيين مثل باقي الدول العربية تقتصر على طوئف المهن. أما عمال الزراعة فقد كانوا يعملون بالخمس (الخماس) ولم يكون الجميع منظمين في نقابة أو ماشابه ذلك.
تمكن محمد الصادق بيه مدعوما من قبل الاستعمار من إخماد ثورة العمال الكادحين عام 1864، حيث ثورة علي بن غذاهم عندما تظاهر العمال اعتراضا على الديون والفقر وزيادة الضرائب والحد من التدخل الأجنبي في البلاد، وأجبرت محمد الصادق بيه على توقيع معاهدة بردو التي أسفرت عن الحماية الفرنسية على المملكة التونسية عام 1867، وانتشرت الرأسمالية الأجنبية في البلاد وبدأ الاستعمار في بناء المصانع، ومن هنا بدأت الحركة النقابية للعمال الأجانب في تونس العام 1890 وكانوا يتبعون "سي جي تي" (الكونفدرالية العامة للشغل الفرنسية).
واعتبر العمال التونسيون أن هذه المنظمة لا تخدم مصالحهم ولا تدافع عنهم وتتعامل معهم بتمييز عنصري. ظل هذا الصراع حتى جاء الزعيم النقابي محمد علي الحامي ورفاقه عام 1924، وفي أقل من ستة أشهر تم توقيف محمد علي الحامي لإجهاض التجربة، ورفض المستعمر إقامة نقابة للعمال التونسيين. ثم جاء أحد رفقائه، المفكر التونسي الطاهر الحداد، ووثق التجربة في كتاب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية"، أيضا بادرت سلطات الاستعمار بمصادرة الكتاب ومنعت تداوله بينما بقيت الفكرة عصية على المصادرة.
وفي العام 1937، أعاد النقابي بلقاسم قناوي، أحد رفاق الحامدي، إحياء تجربته النقابية، مؤسسا جامعة عموم العمل التونسية، بمواكبة نخبة سياسية جديدة من شباب الحزب الحر الدستوري الذين أعلنوا انشقاقهم عن الحزب وأسسوا الحزب الحر الدستوري الجديد، يتقدمهم المحامي الشاب الحبيب بورقيبة، حيث سمح الاستعمار بالحرية بعض الشيء، ولكن الحزب الدستوري الجديد حاول الاستيلاء على كل القوى الوطنية، بما فيها جامعة عموم العمال، فرفضوا، مما اضطر بلقاسم القناوي الذهاب إلى السي جي تي وحل النقابة العمالية.
وفي عام 1946، عقب الحرب العالمية الثانية ورغم شدة الفقر التي خلفتها الحرب، إلا أن البلاد العربية (ومنها تونس) شهدت خطابا وحراكا وطنيا، رغبة في الاستقلال، فظهر زعيم جديد للعمال ووحد صفوفهم جاء من نقابة السي جي تي الفرنسية، وهو فرحات حشاد الذي تعلم وتثقف في النقابة الفرنسية وكون في البداية اتحاد النقابات المستقلة في تشرين الثاني/ نوفمبر 1944، ثم ساعد في تكوين اتحاد النقابات المستقلة للشمال ثم تواصل مع جميع الموظفين التونسيين واجتمع بهم الثلاثة وكون الاتحاد العام التونسي للشغل، ووقع الانتخاب على الشيخ الحبيب بن عاشور كرئيس وأمين عام للاتحاد. وبدأ بـ12 ألف مشترك وخلال سنة أصبح 80 ألفا، وبذلك أثبت أن العمال استفادوا من التجربتين السابقتين.
وتزامن ذلك مع تأسيس المنظمات الوطنية الكبري في البلاد، وهنا عرف الاستعمار وشعر بالخطر من وحدة الشعب التونسي وفي القلب منه الاتحاد العام للشغل، الذي نفذ سارع الاضراب العام بصفاقس في 4 آب/ أغسطس 1947، ردا على تعنت المقيم العام الفرنسي تجاه مطالب العمال. ويوم 5 آب/ أغسطس خرجت الدبابات وأطلقت النار على العمال وخلفت 38 شهيدا و100 جريحا منهم الحبيب بن عاشور، وذهب المقيم العام إلى محمد صادق بيه وطلب منه حل الاتحاد العام للشغل، إلا أن فرحات حشاد أبلغه بأن يوافق بشرط أن تحل كل المنظمات الفرنسية أيضا بما فيها اتحاد السي جي تي وهذا مستحيل بالطبع.
وأقام الاتحاد العام للشغل مؤتمر عام 1951، إضراب للعمال للمطالبة بالاستقلال التام وتحالف الحزب الحر الدستوري الجديد بقيادة بورقيبة مع الاتحاد العام للشغل. وهنا أصبح الإضراب سياسيا والتحالف وطنيا من أجل الاستقلال وأصبح للوطن ساقين: النقابيين والسياسيين.
وبدأ العمال يحملون السلاح ضد المستعمر من أجل تحرير الوطن بعد اعتقال بورقيبة وزملائه في الحزب في 18 و19 كانون الثاني/ يناير 1952، وتمت مواجهة إضراب العمال والكفاح المسلح بإعلان الأحكام العرفية من قبل الاحتلال الفرنسي، وقاد الحراك فرحات حشاد من خلال المظاهرات وتحفيز الشعب والمقاومة المسلحة أيضا وكانت بقيادة المرحوم أحمد التيليني بعمال المناجم، وكان يمدهم بالسلاح فرحات حشاد ورجال اتحاد العام للشغل، كما شارك في المقاومة عبد العزيز بو راوي الذي كان كاتب الاتحاد، وتم تفجير السكة الحديد بصفاقس.
وأصبح الاتحاد أكبر منظمة وطنية في تونس، وتم اغتيال فرحات حشاد الأمين الأول لنقابات العمال صباح الخامس من كانون الأول/ ديسمبر 1952، وهو القيادي العمالي الذي حظي بعلاقات إقليمية واسعة على يد أحد أفراد منظمة اليد الحمراء التي كانت تتبع المخابرات الفرنسية آنذاك. ولقد صلى اللواء محمد نجيب الرئيس المصري صلاة الغائب عليه، وتكونت في المغرب حركة احتجاجات وأعلن الإضراب العام في مراكش وكان نواة للثورة المسلحة ضد الاستعمار الفرنسي.
أما تونس المكلومة فقد أعلنت الحداد ثلاثة أيام وانخرط المزيد من العمال والنقابيين في العمل المسلح وانقلب الوضع إلى حرب شاملة ضد الوجود الفرنسي، وهو ما زامن هزيمة فادحة للقوات الفرنسية في الهند الصينية وخسائر في تونس من المقاومة المسلحة.
وفي تموز/ يوليو 1954 أعلن رئيس الحكومة الفرنسية أمام محمد الأمين بيه استقلال تونس داخليا، وفي هذه الأثناء يعود الحبيب بورقيبة من منفاه ليتولي قيادة البلاد فيتم توقيع اتفاقية الاستقلال الداخلي التي أيدها الحبيب بورقيبة والتي رفضها الأمين العام للحزب الحر الدستوري صالح بن يوسف، مفضلا الاستقلال التام ومتهما بورقيبة بالخيانة للتدخل في صراع داخل بين الزعيمين بورقيبة وبين يوسف السراع الذي سيكون للعمال فيه كلمة الحسم.
في عام 1955 جاء الحبيب بن عاشور لتونس العاصمة وزار الحبيب بورقيبة في بيته، وقال له بورقيبة أنا لا أستطيع الخروج من بيتي حيث أن قيادات الحزب الدستوري ضدي وأريد أن أعقد مؤتمرا وأقلب الموازين، قال له بن عاشور تعال معي إلى صفاقس ونظم المؤتمر. وبالفعل وافق، وتم انعقاد المؤتمر عام 1955. ولولا الاتحاد العام للشغل لم يكن بورقيبة ليصبح رئيسا لتونس، وهنا بيت القصيد، حيث أن أصوات أبناء الاتحاد العمال للشغل هم من قاموا بالثورة في 2011 وأصواتهم ترجح كفة على كفة.
وأصبح بورقيبه رجل تونس الأول حتى آذار/ مارس 1956، مع إعلان تونس دولة مستقلة، وقد وقع البروتوكول رئيس الوزراء الفرنسي. وأول قرارات بورقيبه كان انقلابا على الأمين العام للاتحاد العام للشغل أحمد بن صالح ليخلو له الطريق إلى حكم مطلق في البلاد.
حينها وقع انشقاق بين أعضاء الاتحاد العام للشغل؛ جزء قليل مع الحبيب بن عاشور وجزء أكبر مع أحمد بن يوسف، إلا أن السلطة كانت في صف بن عاشور فاستغلت سفر بن صالح وتم خلعه وتعين أحمد التيتي، وتم توحيد عمال الاتحاد مما جعل الاتحاد تحت سيادة السلطة.
وفي عام 1964 تبنى بورقيبه النظام الاشتراكي وتغير اسم الحزب إلى حزب الدستور الاشتراكي، وكان المهندس أحمد عاشور المخلوع سابقا من الاتحاد العام هو مهندس هذا التحول، والذي تولى عدة وزارات وأطاح بالحبيب عاشور من الاتحاد العام للشغل وعين بشير بلاغه أحد ولاة بورقيبه.
فشل النظام الاشتراكي في تونس وتم التحول إلى اليبرالية، وتم اتهام أحمد بن صالح بالتقصير وإدخاله السجن، وتعيين الحبيب بن عاشور الذي سعى إلى استقلال الاتحاد عن السلطة وتزويد الاتحاد بكوادر جديدة شاب.ة وزادت الاضرابات العمالية وتبين لقيادات الاتحاد أن السلطة تريد إزاحة الاتحاد وتشويه القيادة، فتقدم باستقالته بعد أن قرر العمال إعلان إضراب عام في البلاد، والإضراب كان ناجحا لكن السلطة أرسلت القوات بقيادة ضابط أمن الدولة زين العابدين بن علي وسمي الخميس الأسود (26 كانون الثاني/ يناير 1978)، فنزلت قوات الجيش مع الشرطة ما أسفر عن 40 قتيلا و325 جريحا واعتقال 400 عامل من بينهم 6 أعضاء من المكتب التنفيذي للاتحاد.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 1983، أعلن محمد المزالي تخفيض الدعم عن المواد التموينية وزيادة أسعار الخبز فانتفض العمال، وسميت انتفاضة الخبز. تراجع بورقيبه بنفسه عن رفع الأسعار وبدأت تظهر قوى الإسلاميين في العمل السياسي والنقابي وطلبة الجامعات، وتمت مكافأة الضابط زين العابدين بن علي وتعينه في الأمن الوطني عام 1985، فبدأ بالقبض على الإسلاميين ثم ترأس الحكومة حتى عام 1987، وحدد إقامة بورقيبه وعين نفسه رئيسا لتونس، ليكون بداية لحكم العسكر من 1985 على يد زين العابدين بن علي.
وبعد أن أصبح رئيسا أدخل رجاله في مجلس إدارة الاتحاد العام للشغل وأحكم السيطرة الأمنية عليه ابتداء من 1989، وتم إسكات صوت العمال الذين أضربوا كثيرا لكن الاتحاد موال للنظام ولم يجدوا من يدافع عنهم.
وانتفض العمال في كانون الثاني/ يناير 2006 ولكن الأمن فض الانتفاضة ولم يلب طلباتهم. وفي 14 كانون الثاني/ يناير 2011، خرجت الجماهير في الشوارع وهتفت بسقوط النظام. وفي القلب منها العمال لأن الشهيد بوعزيزي أيقونة الثورة كان بائعا متجولا وتشاجر مع شرطية فلطمته على وجهه فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير ونجحت الثورة وكانت قدوة للربيع العربي وهي حتى الآن أنجح ثورة في الوطن العربي بعد تعثر الجميع.
* ناشط عمالي