ما أن يهل علينا شهر تشرين الأول/ أكتوبر من كل عام، إلا ويهل معه حاملو السكاكين من كل حدب وصوب، للنيل من حرب السادس من أكتوبر 1973 وتحويل الانتصار العظيم إلى هزيمة ساحقة، بل إن البعض يذهب بخياله المريض بعيداً، ويصفها بالتمثيلية المتفق عليها بين الطرفين بإخراج أمريكي.. هذا ما يردده الناصريون تارة، كرهاً في الرئيس "أنور
السادات" الذي تحقق العبور والنصر على يديه، ولم يتحقق على يد زعيمهم الخالد (أبو الهزائم)، وتارة أخرى من اللوبي العربي الصهيوني الذي توغل وانتشر في البلاد، وتحولت البوصلة لديه فلم يعد يرى في الكيان الصهيوني عدواً تاريخياً للأمة، خاضت ضده أربع حروب، بل أصبح صديقاً حميماً يهرولون إليه ويرتمون في أحضانه الدافئة في ظل ما يسمونه السلام!
مرت ستة وأربعون عاماً على
حرب أكتوبر، تلك الحرب التي كانت نقطة فارقة في تاريخ أمتنا، ولحظة فاصلة في نضالنا ضد العدو الصهيوني، عبرنا فيها من الهزيمة إلى النصر، ومن المذلة إلى العزة.. إنه العبور العظيم الذي استطاع جنود
مصر البواسل أن يعبروا المانع المائي وهدم خط بارليف وتحرير مئات الكيلومترات من شرق القناة كمرحلة أولى لتكون بمثابة قاعدة للانطلاق في مراحل تالية، وما كانت ستتوقف إلا بعد التحرير الكامل لتراب سيناء..
استطاع الجيش المصري عبور خط بارليف في ست ساعات، وهو الذي كانوا يزعمون أنه لا يمكن تحطيمه إلا بالقنبلة الذرية.. لقد استطاع الجيش المصري أن يحقق معجزة عسكرية تدرس في الكليات والمعاهد العسكرية في العالم، فاستطاع جنودنا البواسل أن يحطموا أسطورة الجيش الذي لا يُقهر، مما جعل "جولدا مائير" تصرخ وتهرع وتهاتف "نيكسون"، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك، وتقول له: "الحقنا
إسرائيل بتضيع".
تقول "جولدا مائير"، رئيسة وزراء الكيان الصهيوني في ذلك الوقت، في مذكراتها "حياتي": "إن المصريين عبروا القناة وضربوا بشدة قواتنا في سيناء، وتوغل السوريون في العمق على مرتفعات الجولان وتكبدنا خسائر فادحة على الجبهتين. وكان السؤال هو ما إذا كنا نطلع الأمة على حقيقة الموقف السيء أم لا"!
ولقد عبر عن هذا أيضا "موشي ديان"، وزير الدفاع الصهيوني آنذاك، لرؤساء تحرير الصحف الصهيونية أثناء سير المعارك قائلاً: "إننا الآن ندفع ثمناً باهظاً كل يوم في هذه الحرب.. إننا نخسر يومياً عشرات الطائرات والطيارين والمعدات ومئات الدبابات، وبعض هذه الدبابات وقعت في أيدي المصريين.. والمدرعات والمدفعية وأطقم هذه المعدات، وهذا ثمن باهظ بالنسبة لإسرائيل. لقد نجح المصريون أن يعبروا بأعداد من الدبابات والمدرعات تفوق ما لدينا في سيناء. إن المصريين يملكون الكثير من المدرعات، وهم أقوياء. لقد انسحبنا من خط بارليف بسبب شدة وطأة الهجوم المصري. إن خط بارليف لم يعد حقيقة بالنسبة لنا، ونحن لا نملك القوة لطرد المصريين الذين حطموه". ويعترف ديان مصرحاً: "الأهم بالنسبة لنا وللعالم أنه اتضح أننا لسنا أقوى من المصريين، وأن هالة التفوق الإسرائيلي قد زالت وانتهت إلى الأبد، وبالتالي فقد انتهى المبدأ الذي يقول إن إسرائيل متفوقة عسكريا على العرب، كما ثبت خطأ النظرية الإسرائيلية بأن العرب سينهزمون في ساعات إذا أعلنوا الحرب على إسرائيل، والمعنى الأهم التالي هو انتهاء نظرية الأمن الإسرائيلية بالنسبة لسيناء؛ لأن التفوق العسكري المصري في سيناء الآن لا يمكن مواجهته. علينا أن نفهم أننا لا يمكننا الاستمرار في الاعتقاد بأننا القوة الوحيدة العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، وهناك حقائق جديدة وعلينا أن نعيش مع هذه الحقائق الجديدة".
كان هذا الوضع في سيناء في بدايات الحرب، وسير المعارك الدائرة على أرضها، بلسان القادة الصهاينة أنفسهم، ولولا تدخل أمريكا المباشر في الحرب، حيث كانت شاحنات الطيارات والدبابات والمعدات العسكرية تنزل مباشرة إلى أرض سيناء، لاسترددنا كل أراضي سيناء، ولما احتجنا لمفاوضات سلام لنسترد بها كامل التراب الوطني في سيناء.
لقد تغير مسار الحرب كما تغير العدو، فأصبحت في مواجهة مع أمريكا وليس مع إسرائيل، مما دفع الرئيس السادات يومها إلى القول "إننا كدنا أن نحقق النصر الكامل لولا تدخل الولايات الأمريكية ضدنا في الحرب، وأنا لا أستطيع محاربة أمريكا وأنا أخاف على أولادى"..
وكان لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يقبل الجنرالات الصهاينة بأن تنتهي الحرب بهزيمة ساحقة لجيشهم، فغرورهم يأبى ذلك، فاستغلوا ثغرة "الدفرسوار"، جزاءً على ما قام به الجيش المصري من إنجازات طوال أيام الحرب الأولى. وموضوع الثغرة موضوع شائك وفيه الكثير من الغموض، تناوله الصهاينة كأنه نصر لهم، بينما تناوله الرئيس السادات بأنه عملية تلفزيونية دعائية لا أكثر.
وقد صدرت كتب عديدة وتحليلات كثيرة من خبراء عسكريين، تراوحت بين مَن يراها قد كلفت الجيش الصهيوني الكثير من الأعباء المالية والعسكرية، ووضعته في وضع عسكري خطير، ولم يجن منها غير الدعاية فقط لرفع معنويات الجيش الصهيوني الذي انكسر في بدايات الحرب، وبين ما يراها ضربة قوية وجهت للجيش المصري، أضاعت الكثير من الانتصارات المبهرة التي حققها في بدايات الحرب، وهذا ما نتركه للسادة العسكريين.. أما ما يهمنا هنا فهو أنها أدت إلى اتفاقيتين لفك الاشتباك بين القوات المصرية والقوات الصهيونية، وبداية التفاوض غير المباشر بين الجانبين، حيث نصت الاتفاقية الثانية، والتي وقعت في جنيف في الأول من أيلول/ سبتمبر عام 1975، في مادتها الأولى على أن "النزاع بينهما لا يتم حله بالقوة المسلحة بل بالوسائل السلمية"، وقد شددت على ضرورة الوصول لسلام عادل ودائم في إطار مؤتمر جنيف للسلام، وفقا لأحكام قرار مجلس الأمن 338 الصادر في 22 تشرين الأول/ أكتوبر 73، لتسوية سلمية عن طريق المفاوضات..
ومن هنا بدأت المفاوضات بين مصر والكيان الصهيوني، والتي أدت بعد ذلك لمفاوضات "
كامب ديفيد" عام 1978، ثم توجت بمعاهدة السلام بين مصر والكيان الصهيوني في 26 آذار/ مارس 1979، ليأخذ الصراع العربي الصهيوني منحى آخر وشكلاً جديداً، غير النضال بالسلاح لتحرير الأرض من رجس المحتل بالدم، بل أصبح تحرير الأرض بالحبر في اتفاقيات أطلق عليها "اتفاقيات سلام"، إذ وقع الزعيم الفلسطيني "ياسر عرفات" اتفاقية "أوسلو" عام 1993، ثم أعقبها توقيع ملك الأردن "الحسين بن طلال" على اتفاقية "وادى عربة" في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 1994، وبدأ الرئيس السوري "حافظ الأسد" في مفاوضات مع الرئيس الوزراء الصهيوني "إسحاق رابين" عام 1995، وبدأ الحكام العرب في الهرولة إلى الكيان الصهيوني!!
وهنا لا بد أن نشير إلى أن الرئيس "أنور السادات" قد دعا كلا من منظمة التحرير الفلسطينية والمملكة العربية السعودية وسوريا والأردن لحضور مؤتمر "مينا هاوس" بالقاهرة في كانون الأول/ ديسمبر 1977، لبحث وحل مشكلات الحل النهائي للقدس وقضية اللاجئين الفلسطينيين، ولكنهم لم يحضروا، ورُفع العلم الفلسطيني، بينما كان المقعد الفلسطيني خالياً!
لقد ذهب الرئيس "السادات" إلى سوريا وقابل "حافظ الأسد"، وطلب منه أن تنضم سوريا إلى مؤتمر السلام في جنيف لتسترد الجولان، ولكنه رفض وهاجمه، كما فعل باقي الحكام العرب الذين شنوا على السادات حملة شعواء واتهموه بالخيانة بعد زيارته للكيان الصهيوني وإلقاء خطاب في الكينست. وقاطعت الدولُ العربية مصرَ وعلقوا عضويتها في الجامعة العربية، ونُقل مقرها إلى تونس، وها هي بعد أكثر من خمسة عشر عاماً تسير في نفس المسار التي رفضت أن تسير فيه مع السادات، وأن تكون هذه الدول جبهة قوية في المفاوضات في مواجهة الكيان الصهيوني بدلاً من أن تذهب إليها فراداً، ليستفرد بكل منها على حدة، ولكنها فضلت أن تكوّن جبهة "الصمود والتصدي" لمهاجمة الرئيس السادات، والتي لم نر لها علامات في تحرير الأرض. والآن وبعد أكثر من أربعين عاماً، لا يزالون يهرولون على أعتاب الصهاينة لينالوا الفتات الذي ضاع في خضم الأحداث العالمية وتغير موازين القوى في العالم، فقد ضُمت القدس إلى الكيان الصهيوني وأصبحت العاصمة، كما ضمت الجولان السورية للأراضي الصهيونية..
دأبت إسرائيل بعد معاهدات السلام، على الترديد بأن القوات المسلحة المصرية لم تستطع أن تحرر سيناء كاملة بل حررت فقط بضع كيلومترات، واضطرت لعمل مفاوضات وإجراء اتفاقيات سلام لتسترد أرض سيناء، ويتفاخر الإسرائيليون بكل وقاحة وعجرفة أن "العرب تعلموا الدرس جيداً، وهو أن إسرائيل تجيد القتال، وأنه لا يمكنهم أن يحصلوا منها على شيء إلا بالمفاوضات".
ويتماهى مع هذا الكلام للأسف الشديد الصهاينةُ العرب، فحينما يتكلمون عن حروب الأمة في 67 و73 ضد الكيان الصهيوني، لا يطلقون عليه وصف "عدو"، بل يطلقون عليه الخصم أو الطرف الآخر، وهو ما يمثل خطيئة كبرى في حق الأمة وشعوبها وتاريخها النضالي وبطولتها العسكرية وأمنها القومي ومصالحها العليا، كما أنها تكسر الشعوب وتضعف ثقتها بنفسها، ويضرب روحها المعنوية في مقتل لتضخيمه من قوة الكيان الصهيوني!!
سيظل الكيان الصهيوني هو العدو التاريخى للأمة مهما هرول إليها الحكام العرب، وستظل الشعوب العربية ترفض التطبيع مع العدو الصهيوني.