كُتب الكثير عن الثورات المغدورة في
العالم العربي. فالثورة في سوريا ومصر والسودان والجزائر واليمن ليبيا وتونس؛ فيها الكثير من زخم المؤامرات والتواطؤ المستمر، والعديد من الدروس البليغة.
سوريا ومصر نموذجان، وفيهما أيضاً قراءة جديدة للواقع العربي الذي لم تعد كل التحليلات الكلاسيكية؛ تصح لتقديم فهم تحليلي من منظور يساري أو ماركسي أو ليبرالي، لكن ما يصح فهمه بشكل بسيط، وهو أخطر من هذا وذاك، أن الثورات من وجهة نظر أعدائها تمثل قفزة نوعية في تكريس الديمقراطية، التي بات الحديث فيها أو التعبير عنها يدور في ساحات وميادين عربية كلفت ملايين الضحايا، في رحلة استنساخ دموية وفاشية، وبانقلابات عسكرية تحكم بقبضة حديدية على مفاصل المجتمعات والأوطان.
لا نعتقد أننا مقدمون، بقدر أو بآخر، على الاستعانة بالنظرية لتحليل ما شهدته الثورات والحركات والأحزاب السياسية.. بعضها كان خانعا، والبعض الآخر أو كثيره كانت له ارتدادات مذهبية وطائفية، واصطفافات مع عسكر الانقلابات ومليشياتهم ضد الشعب الثائر، وتلك من أبرز الظواهر التي لازمت الثورات العربية منذ ثمانية أعوام، مع الأمراض التي أفرزتها. لكن هذا ليس هدف المقال، الذي نريد له أن يقتصر على معالجة قضية الثورات والثورات المضادة، أو الخوف من الديمقراطية داخل المجتمعات العربية، وبالتالي يكون وأد المواطنة والحرية هدفا معلنا من قبل النظام الرسمي العربي.
أما القضية الأخرى التي نريد لها أن تكون مثار اهتمام المواطن العربي، وهي كذلك، حاضرة ومرفوعة العناوين، الشعارات تصدح من الحناجر الهادرة في شوارع القاهرة والخرطوم والجزائر، والأزقة السورية، والمرتبطة بالديمقراطية والحرية والمواطنة، هي مطلب الإنسان العربي الأول، وحاجته إليها توازي خبزه اليومي، فبدون الديمقراطية، لن تكون كرامة، ولن يتحقق مهما طال المدى، أي نصر، حتى على أصغر المشكلات داخل المجتمعات العربية، وستتراكم الأزمات كما هي حتى تتفجر البراكين لتتحول إلى كوارث مع الطغاة والمستبدين.
فهل كانت الديمقراطية والمواطنة والحرية، في صلب اهتمام النظام الرسمي العربي أو "الرجعي"، حسب مسمى من لعق تحليلاته وتنظيراته لصالح قتلة ومجرمين؟ لا نظن أن الإجابة عن هذا السؤال بوضوح ودقة أمر صعب، خصوصاً إذا استعملنا شعارات من هرب من تنظيراته وتحليلاته السابقة، من اليساري إلى اليميني فـالليبرالي. تكفي دقائق وتفاصيل صغيرة من الميادين العربية، كي تشير لعمق الجواب الجلي على كل الأسئلة.
ما تكرس داخل الشارع العربي، بفضل تنامي الوعي الشعبي، والذي حبلت فيه السنوات العربية الثماني، فصلت بين ما اهترأ من الشعارات، وبين ما يتم الرد عليه في ميادين مصر المختلفة، وشوارع الجزائر، والأزقة السورية الناجية مؤقتاً من براميل وصواريخ النظام السوري.
رد العسكر على مطالب الشارع، أو الغوص في مغطس الدم الذي غرق فيه النظام السوري، وصولاً لحالة الخذلان السياسي والثقافي والفكري، التي مني بها الشارع العربي من نخبه وقواه التي نصبت كمائن التخويف والرعب من الثورات.. كل ذلك يحتم المضي قدماً نحو تحطيم جدران الخوف مهما علت.
من هنا، يمكن القول، ولا تثريب في ذلك، إن بعض النظام الرسمي العربي، وتحديداً في السعودية والإمارات ومصر، لم يرق له هذا التنامي في الوعي ضد الطغاة، وضد خدم المؤامرات على الشعوب الذين يمثلون جوهرها، والتي أدى فيها تمويل ودعم الثورات المضادة لكلفة باهظة، وبات الحديث عن بقية القضايا أكثر وضوحا.
القضية الفلسطينية تشكل لب الحديث ووضوحه، فإذا كانت نظريا تمثل هرم القضايا، لكنها تتعرض لمؤامرة علنية من قادة ومحور الثورات المضادة. ومع الحديث عن صفقة القرن، أو التماهي مع إسرائيل بتفان من بعض من الزعماء في مصر والإمارات والسعودية لتمرير صفقة القرن، أو الإشادة بآخرين كالأسد والسيسي.. القاتل المفضل أو الديكتاتور المحبب.. وبقدرتهم وكفاءتهم على حماية "حدود" المحتل، فلنا أن نتخيل حجم الهجمة والمؤامرات على بقية الثورات العربية.
بالتأكيد، باتت للمحتلين وللطغاة ينابيع جديدة يشيرون إليها، بكفاية ارتوائهم من خزان الجرائم وتبادلها أو التفاضل بينها، لكن الرعب سيبقى مدويا من
الحرية والكرامة والمواطنة في قلب كل طاغية ومجرم ومحتل، وسيبقى الخوف على الثورات، ومن كلفتها الباهظة في الأرواح التي تجرف الأوطان والأجساد، لكن الإنسان العربي حسم أمره في تعكير مزاج الحاكم الفرد والديكتاتور المحبب، والقاتل المفضل لقوى الاحتلال المختلفة، لانتزاع الحرية والمواطنة والكرامة، مهما علا مديح المحتل له.