تمت انتخابات الرئاسة في تونس في دورتها الأولى بنجاح وهدوء وطمأنينة. والحمد لله لم تحصل أحداث يوم الانتخابات تستحق الانتباه والدليل على ذلك أن الاعتراضات التي تم تقديمها للجنة المستقلة للانتخابات التي أدارت الانتخابات كانت قليلة. وقد التزم المرشحون للانتخابات الرئاسية بتعليمات اللجنة، وكانوا إجمالا قدوة لمؤيديهم الذين احترموا أيضا الترتيبات الانتخابية. كانت تجربة ديمقراطية رائعة، وشكلت مثلا يمكن أن يحتذى على الساحة العربية.
تجارب انقلابية
لكن من المعروف أن تخريب المسار الديمقراطي لا يتم يوم الانتخابات عموما، وإنما بعد الانتخابات وبعد تحديد الفائزين. خاضت شعوب عربية عدة انتخابات ديمقراطية وكانت موفقة جدا يوم الانتخابات، وشهد لها المراقبون المحليون والدوليون بالنزاهة والشفافية. لكن سرعان ما كانت تنقلب الأمور وتتحول الديمقراطية إلى احتراب أو تعطيل أو تخريب. حصلت انتخابات مجالس محلية في الجزائر عام 1992، وانقلب العسكر عليها عندما رأوا أن الإسلاميين قد حصدوا أغلب المقاعد، وانقلبت فلسطين على نتائج الانتخابات بعدما فازت حركة "حماس"، ورفض الخاسرون الاعتراف بالنتائج واحترامها، ولم تشذ مصر عن هذا النهج، وقام العسكر بالاستيلاء على السلطة واعتقلوا الرئيس المصري المنتخب وهو محمد مرسي.
عادة تحصل الانقلابات عندما يفوز الإسلاميون، ويبدو أن الإسلاميين ليسوا في الطليعة هذه المرة.
فائزون من خارج المنظومة الحزبية
وملاحظ في انتخابات تونس أن اللذين حصلا على أكثر الأصوات من خارج المنظومة السياسية، وهذا يؤشر إلى ضعف ثقة الناس بالقائمين على النظامين السياسي والإداري. لم يكن للسعيد ولا القروي أحزاب تحملهم إلى الفوز، ولم يكن لد السعيد ما يكفي من الأموال لعمل دعاية انتخابية واسعة. السعيد أستاذ جامعي لا يتلقى دعما من دول أو تنظيمات، والقروي يقبع في السجن. وبالرغم من ذلك، عبر الشعب التونسي عن عدم ثقته بالنظام ومسؤوليه، وفضل أن ينتخب من يترجل من بين الصفوف الشعبية. وهذا درس سينعكس على أي انتخابات عربية قادمة، وعلى المسؤولين العرب الموجودين الآن أن يأخذوا العبرة قبل أن يلقي بهم الشعب في الشارع.
ملاحظ في انتخابات تونس أن اللذين حصلا على أكثر الأصوات من خارج المنظومة السياسية، وهذا يؤشر إلى ضعف ثقة الناس بالقائمين على النظامين السياسي والإداري.
ومطلوب من الرئيس التونسي القادم أن يثبت أقدامه أولا بإرساء الثقة بينه وبين الناس وذلك باتخاذ إجراءات يتطلع إليها الجمهور ويرغب باتخاذها. وتقع محاربة الفساد على رأس الأولويات التي يجب الانتباه إليها. والمفروض ألا يغيب عن البال مبدأ تحقيق العدالة الذي هو أساس الحكم. وإذا كسب الرئيس ثقة الناس، فإن الأحزاب المنافسة الكارهة لنتائج الانتخابات لن تجرؤ على التخريب.
والمعضلة الكبيرة التي يمكن أن يواجهها الرئيس الجديد تتمثل في الجهاز الإداري الذي يدير الدولة. أغلب أبناء الجهاز الإداري ينتمون إلى أحزاب، وهي أحزاب ذات مصالح حزبية وليس وطنية، ومن أجل مصلحة الحزب، يضحي العديد من المسؤولين الإداريين بالمصالح الوطنية من أجل مصالح أحزابهم. كما أن أغلب الإداريين المخضرمين بارعون بأساليب الفساد وفنونه. المعنى أن الهندرة (أي إعادة هندسة الجهاز الإداري) أولوية لا بد أن يهتم بها الرئيس لكي يتخلص مما يسمى بالدولة العميقة التي تعطل العمل، أو لا تريد أن تعمل. الموظف الإداري غالبا يلصق في مكانه، وتشل حركته، ويتحول إلى عبء على الدولة. ولهذا لا بد من تجديد الأجهزة الإدارية بخاصة القائمة على المؤسسات الحيوية للدولة. وهذا شأن منوط بمهارة الرئيس على مقاربة الناس والأجهزة.
نتمنى لتونس النجاح، ونجاحها بالتأكيد سيشكل درسا لكل الجماهير العربية في كل مكان، وسيشكل ضربة للأنظمة السياسية القائمة التي تخشى الديمقراطية وتتحصن بالدول الغربية لحمايتها من هذا العدو القادم. نحن بحاجة إلى ديمقراطية وليس إلى عرب قراطية.