لعل إصرار الحكومة البريطانية على الخروج من الإتحاد الأوروبي بعد البريكسيت بصرف النظر عن التوصل إلى اتفاق بين لندن وبروكسيل من الأمور التي تحتم على الحكومة المغربية التفكير بجدية بإعادة طرح موضوع احتلال الثغور المحتلة من قبل إسبانيا على طاولة المفاوضات لوجود مبررات تاريخية وواقعية وقانونية وسياسية تبرر مشروعية توقيت هذا الطرح. ذلك أن تمديد اتفاق خروج بريطانيا على جبل طارق يتطلب موافقة إسبانيا. وقد تم بالفعل إبرام بروتوكول في هذا الصدد بين بريطانيا وإسبانيا استند فيه الطرفان إلى مذكرة تفاهمات همت السيادة على الصخرة، المياه الإقليمية والأراضي المحتلة وضعية المواطنين الأسبان العاملين في جبل طارق .
والجدير بالذكر أن صخرة جبل طارق التي تنازلت عنها إسبانيا لفائدة بريطانيا بمقتضى معاهدة أوتر يخت Utrecht سنة 1713 لها ارتباط تاريخي بالثغور المغربية المحتلة وخاصة سبتة التي احتلتها البرتغال سنة 1415 وتخلت عنها لإسبانيا قرنين بعد ذلك، الارتباط الذي يجد جذوره إبان مشاركة بريطانيا في الحرب الانفصالية الإسبانية بعد وفاة آخر ملوك أستورياس كارلوس الثاني، بل إن اهتمام بريطانيا بجبل طارق يعود إلى عهد كرونويل Cromwell حينما كان يود حماية التجارة البريطانية من قراصنة الجزائر والتوفر على قاعدة عسكرية لمراقبة ممر تجارة إسبانيا مع أمريكا وكذا ميناء قادس.
وقد تجسدت هذه الرابطة عبر التاريخ من خلال العديد من المحاولات التي قامت بها إسبانيا وبريطانيا من أجل مبادلة جبل طارق كمستعمرة بريطانية بمدينة سبتة كمستعمرة إسبانية، أهمها التصريح الصادر عن القائد البحري الأميرال كراي l'amiral Grey سنة 1868 والذي لم يجد استجابة لدى الرأي العام الإنجليزي، و قد سبقت ذلك بعض المحاولات سواء أثناء الحروب النابليونية بعد حرب النيل، أو بعد سماح اسبانيا لبريطانيا ببناء قاعدة عسكرية بسبتة بين سنتي 1810 و1813 . إلا أن الصدامات المسلحة التي تحولت إلى حرب مفتوحة بين المغرب وإسبانيا في النصف الثاني من القرن 19 جعلت بريطانيا تنأى بنفسها عن مناطق النفوذ الفرنسي .
ليس من مصلحة إسبانيا استعادة جبل طارق
إن المتتبع للتجادبات التاريخية التي طبعت ملف الثغرين المحتلين يتوصل إلى حقيقة مفادها أن مشروعية مطالب المغرب ليست محل خلاف من كلا الطرفين الإسباني والمغربي، خاصة ما كشفت عنه وثائق بريطانية ـ بعد أن رفعت عنها السرية ـ من كون "إسبانيا لا ترغب في المطالبة بجبل طارق خشية مطالبة المغرب بالثغرين المحتلين والمتمثل من خلال اعتراف العاهل الاسباني في اللقاء الذي عُقد في مدريد في تموز (يوليو) 1983 مع السفير البريطاني آنذاك، السر ريتشارد بارسونز، والذي صرح فيه العاهل الإسباني بأنه: "ليس من مصلحة إسبانيا أن تستعيد جبل طارق في المستقبل القريب، لأنه إذا استعادتها فإن الملك الحسن الثاني سيتحرك على الفور لتفعيل مطالبة المغرب بسبتة ومليلية".
منذ القرن الخامس عشر، سبتة ومليلية الموجودتين على التراب المغربي في الشمال محتلتين من قبل إسبانيا وأن المغرب لم يتوقف عن المطالبة باسترجاعهما وأن تشبث إسبانيا بسيادتها على الثغرين
وقد كان العاهل الإسباني آنذاك حريصا على رغبة إسبانيا في الانضمام إلى أوروبا وتهدئة
الرأي العام الاسباني. كما أن موقف بعض الأحزاب السياسية الإسبانية كانت صريحة في أحقية المغرب باسترجاع ثغوره المحتلة كالحزب الشيوعي الإسباني الذي ضمن بيانه الصادر في 20 شباط (فبراير) 1961: "فيما يخص الصخور وسيدي إيفني والساقية الحمراء ووادي الذهب، فمشروعية المطالب المغربية لا تقبل الجدال... ويدعو الحزب الشيوعي الإسباني جميع الإسبانيين وخاصة الشباب إلى المطالبة بإخلاء الجيوش الإسبانية التي ما زالت على التراب المغربي وإرجاع جميع الأراضي للمغرب الذي يملكها جغرافيا وتاريخيا". إلا أن الحزب المذكور انتقل وبشكل مفاجئ إلى دعم الأطروحة الجزائرية والحركة الانفصالية
(كويتسولو 79 منشورة في "إسبانيا في مواجهة التاريخ" ص134 ـ منشورات الزمن ترجمة عبد العالي بروكي ).
فمنذ القرن الخامس عشر،
سبتة ومليلية الموجودتين على التراب المغربي في الشمال محتلتين من قبل إسبانيا وأن المغرب لم يتوقف عن المطالبة باسترجاعهما وأن تشبث إسبانيا بسيادتها على الثغرين يفقدها الجدية في المطالبة بجبل طارق من بريطانيا. كما أن فترة الاحتلال " كانت كلها تاريخ مقاومة مستمرة للقبائل الريفية، لا توقفها إلا فترات الهدنة مثل الاتفاقيات الموقعة في القرنين 18 و19، و التي فرض فيها على المغرب لأسباب دفاعية وفي إطار غير متكافئ تقديم تنازلات متتالية عن السيادة في الأماكن المجاورة" *(السياسة الخارجية للمغرب، ميغيل هرناندو ص 328).
وقد استمرت مطالبة المغرب باسترجاع الثغور المحتلة حتى في ظل الحماية سواء من خلال الحركات التحريرية المغربية وكذا من خلال مطالبة محمد الخامس باستكمال الوحدة الترابية.
وإذا كان المغرب قد تمكن من استرجاع بعض مناطقه المحتلة في الجنوب في ظروف مختلفة فإنه وإن جمد مطالبته بسبتة ومليلية بعد التوقيع على اتفاقية مدريد إلا أنه جدد المطالبة بهما بعد سنة 1978 لما قام وزير الشؤون الخارجية والأمين العام لحزب الاستقلال بطرحها بواشنطن خلال محاضرة ألقاها بجامعة جورج تاون، وهي المحاضرة التي أثارت ضجة في الأوساط السياسية الإسبانية رغم أن هذه التصريحات لم تقم إلا بتكرار نفس الموقف الرسمي للمغرب المتخذ منذ استقلاله.
استمرت مطالبة المغرب باسترجاع الثغور المحتلة حتى في ظل الحماية سواء من خلال الحركات التحريرية المغربية وكذا من خلال مطالبة محمد الخامس باستكمال الوحدة الترابية.
وقد أدى ذلك إلى صدور تصريحات عنصرية عن سياسيين وإعلاميين إسبان من قبيل " سنحرق سبتة ومليلية على أن نسلمها للموروس"، كما تحدث البعض الآخرعن شن "حرب صليبية وطنية ضد المورو للدفاع عن الوحدة الإسبانية المقدسة"، فيما نادى حزب كبير بالاستقلال الذاتي للثغرين لحماية أرضهم" ومطاردة المورو ضربا بالهراوات"، دون أن ننسى بعض المواقف التقدمية التي حللت مشكل المدينتين الإفريقيتين من زاوية موضوعية وبدون نظارات واعتبرت مطالبة المغرب بأراضيه من قبيل تصفية الاستعمار مثل فيرناندو كونزاليس في Triunfo أو دانييل كافيلا في El Pais أو سيباستيان براغادو في Interviu . * (كويتسولو المرجع السابق) ص132.
ولقد كثف المغرب ضغوطه بعد زيارة رئيس الحكومة الإسبانية آنذاك لسبتة في كانون أول (ديسمبر) 1980 الأمر الذي أدى بالوزير الأول المغربي آنذاك المعطي بوعبيد بإدراج المطالبة وذلك عن طريق إشارة واضحة في البرنامج الحكومي تخص المطالبة بسبتة ومليلية في تشرين ثاني (نوفمبر) 1981 تضمنت: "إن الوحدة الترابية للمملكة لا يمكن أن تكتمل دون استرجاع بلدنا لمدينتي سبتة ومليلية والجزر المتوسطية المغربية. تتذكرون بالطبع بهذا الخصوص تصريح جلالة الملك الذي أكد فيه على العلاقة المنطقية التي توجد بين إعادة جبل طارق لإسبانيا واسترجاعنا لسبتة ومليلية". (السياسة الخارجية للمغرب ميغيل هيرناندو دي لا رامندي ص 328).
بإعلان خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وإعراب اِسبانيا عن استرجاع جبل طارق يكون المغرب محقا في إعادة طرح قضية الثغور المحتلة من قبل إسبانيا
وبالفعل فقد سبق للراحل الحسن الثاني بطرح الحوار كسبيل لحل النزاع فيشباط (فبراير) 1976 أي بعد شهر واحد من استرجاع الساقية الحمراء وربط بين مستقبل سبتة ومليلية وجبل طارق حينما قال: "إن قضية سبتة ومليلية بالنسبة لي أمر محسوم، لا أرى دافعا لتقييد
العلاقات الإسبانية - المغربية الآن وبعد أن خرجت من حالة الفوضى بفضل الله. لماذا تقيده بشيء سيأتي عاجلا أو آجلا. يوم تحصل إسبانيا على جبل طارق، لن تسمح لها أي قوة في العالم بامتلاك بابين للمضيق. مستحيل، لا يوجد أي بلد يملك بابي المضيق وحينها منطقيا ستعيد لنا إسبانيا سبتة ومليلية. إن الأمر يتعلق بمسألة مربوحة. لا داعي لأن نضيع طاقتنا ونزيد علاقاتنا قتامة وقد خرجت لتوها من فترة مضطربة".(المرجع السابق الصفحة 329).
وقد تطور الموقف سنة 1987 إلى اقتراح تشكيل لجنة مشتركة للتفكير في مستقبل المدينتين الذي رفضته إسبانيا، وفي سنة 1991 وقع المغرب وإسبانيا اتفاقية الصداقة وحسن الجوار والتعاون، يلتزمان بموجبها بحل الخلاف الذي يبرز بينهما بطرق سلمية دون المساس بالعدل والسلم والأمن الدوليين .
جبل طارق و البريكسيت
جبل طارق باعتباره مستعمرة بريطانية دخل الاتحاد الأوروبي في 1 كانون الثاني (يناير) 1973 بمقتضى الاتفاقية التي جمعت بريطانيا بالاتحاد الأوروبي تطبيقا للفصل 299.4 من الميثاق الأوروبي واستمرارية بقائها تنظمها مقتضيات الفصل 355.3 من ميثاق سير عمل الاتحاد .
وفي 23 حزيران (يونيو) 2016 قرر البريطانيون بمقتضى استفتاء الخروج من الإتحاد الأوروبي وتم إشعار الإتحاد في 29 آذار (مارس) 2017 تطبيقا للفصل 50 من الميثاق، إلا أنه مباشرة بعد الاستفتاء أعرب سكان جبل طارق عن رغبتهم في البقاء في الإتحاد الأوروبي وذلك بإيجاد آلية قانونية تمكنهم من ذلك، وهو أمر غير ممكن في ظل إصرار بريطانيا على وحدة مصيرها بمصير الصخرة.
أي اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بشأن جبل طارق لا يمكن تطبيقه دون موافقة إسبانيا وبريطانيا.
وقد أثيرت من قبل إسبانيا فرضية السيادة المزدوجة لإسبانيا وبريطانيا على الصخرة وهي فرضية كان من الممكن التوصل إليها في (عهد حكومتي بلير وأزنار). وهي الفرضية التي تسمح لإسبانيا بالتكفل بالعلاقات الخارجية لجبل طارق رغبة في استمرار سريان تطبيق الفصل 355.3 المذكور إلا أن حكومة جبل طارق الجهوية رفضت بصورة قطعية هذا الحل .
وتجدر الإشارة إلى أن أي اتفاق بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة بشأن جبل طارق لا يمكن تطبيقه دون موافقة إسبانيا وبريطانيا. وهذا المقتضى سيفضي إلى التالي:
ـ إن اتفاقا بانسحاب بريطانيا يكون طرفاه بريطانيا والإتحاد الأوروبي ولا يمكن لإسبانيا التصويت عليه.
ـ الاتفاق المنظم للعلاقات المستقبلية لبريطانيا مع الإتحاد الأوروبي تملك فيه إسبانيا صوتا واحدا إسوة بباقي أعضاء الاتحاد.
ـ الاتفاق بشأن العلاقات المستقبلية والذي يمكن تطبيقه على جبل طارق لا يمكن إجازته إلا في حالة التوصل إلى اتفاق بين إسبانيا وبريطانيا، أي أنه في حالة عدم التوصل إلى اتفاق فإن الاتفاق يطبق على بريطانيا دون جبل طارق .
بإعلان خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، وإعراب اِسبانيا عن استرجاع جبل طارق يكون المغرب محقا في إعادة طرح قضية الثغور المحتلة من قبل إسبانيا قصد الدخول في الفصل الأخير من مسلسل تصفية الاستعمار الطويل والذي استمر أربعة قرون والتي لم تتوقف خلالها المقاومة إلا في فترات الهدنة أو لأسباب دفاعية وفي إطار غير متكافئ كما سبق بيانه، فالمناسبة شرط. ولا أعتقد أن مطالبة المغرب باسترجاع ثغوره المحتلة سيؤدي إلى المساس بالعلاقات بين البلدين بعد أن تغيرت الظروف وارتقى وعي البلدين إلى استحضار المصالح المشتركة التي تجمع بلدين بل قارتين لم تعد تحكمهما أجندات إمبريالية غابرة، كما أن الرأي العام في الضفتين سيكون سعيدا بنهاية سعيدة تشهد على استرجاع إسبانيا لجبل طارق وإعادة الثغور المغربية المحتلة للمغرب. فالبلدان ليسا في حاجة إلى تكرار سيناريو جزيرة ليلى التي جعلت المنطقة قاب قوسين أو أدنى من إشعال المنطقة من جراء تصرف فرنكوي غير محسوب العواقب. كما أن المغرب سيكون منطقيا في الخطوات التي سلكها لتحرير جيوبه المحتلة في إطار استمرارية الدولة وفق ما تم بسطه.
*محام وخبير في القانون الدولي