الكتاب: حقول الدم.. الدين وتاريخ العنف
المؤلفة: كارين آرمسترونغ
الترجمة:أسامة غاوجي
دار النشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر/2016
منذ اللحظة الأولى التي عرفت فيها التجمعات البشرية مفهوم الدولة صارت الحرب حقيقة راسخة في الحياة الإنسانية، وأصبح العنف بنيويا ومؤسسيا وعم جميع الحضارات الزراعية سواء في امبراطوريات الشرق الأوسط أو الصين أو الهند أو في امبراطوريات أوروبا، فقد كان ثمة نخبة لا تضم أكثر من 2% من السكان، تقوم بمساعدة فرق صغيرة من الخدم، بشكل منظم، بسرقة معظم الإنتاج في سبيل الحفاظ على نمط حياتهم الأرستقراطي.
إلى أي درجة ساهم الدين في عنف الدولة؟ وكم من اللوم بشأن تاريخ العنف البشري يمكن أن ننسبه إلى الدين؟
لكن هذا النمط الظالم من التراتبية سمح أيضا، بحسب المؤرخين الاجتماعيين، بتوفير الوقت والثروة لهذه الطبقة لتطوير الفنون والعلوم التي جعلت من التقدم ممكنا، بمعنى أنه كان ضروريا وحتميا. ولأن الأرض والفلاحين الذين يزرعونها هم مصدر الثروة الرئيس في تلك الحضارات، فقد كان احتلال الأقاليم الجديدة هو الطريقة الوحيدة التي تتمكن من خلالها الممالك الزراعية من زيادة دخلها، لذا لم يكن هناك غنى عن الحروب.
ولأن الدين كان في المجتمعات ما قبل الحديثة يتخلل الأنشطة الإنسانية كافة بما فيها بناء الدول والحكم فإن حضوره في الحرب بدا أمرا طبيعيا ومسلما به. لكن السؤال هو إلى أي درجة ساهم الدين في عنف الدولة؟ وكم من اللوم بشأن تاريخ العنف البشري يمكن أن ننسبه إلى الدين؟
تقول كارين ارمسترونغ: إن معظم الصراعات التي ينظر إليها عادة على أنها قامت بدوافع دينية كانت لها أبعادها السياسية والاقتصادية القوية، وأن النظر بتمعن في التاريخ الديني سيظهر بشكل واضح أن الصراع لتحقيق السلام لم يكن أقل أهمية عن الحروب المقدسة، حيث سعى المتدينون لابتكار طرق مختلفة لكبح نوازع البطش والتباهي بالقوة، واقترحوا مسارات مختلفة لكيفية العيش بين البشر بعيدا عن العنف وقريبا من التعاطف والرحمة. لكن الفكرة السائدة في عصرنا هي أن الدين عنيف بطبيعته وهو سبب كل الحروب الكبرى في التاريخ، وهذا افتراض "سطحي" حول طبيعة الدين ودوره في العالم، كما أن العلمانية، على الرغم من منافعها الكثيرة، لم تقدم في الغالب بديلا مسالما عن أيديولوجية الدولة الدينية، فهي لم تقم بإقصاء الدين بقدر ما خلقت أنماطا بديلة أخرى من الحماسة الدينية كما في الدولة القومية على سبيل المثال.
أسطورة العنف الديني
الحروب الدينية التي بلغت ذروتها في حرب الثلاثين عاما (1618 ـ 1648) أدت إلى ما بات يعرف بـ "أسطورة الخلق" للغرب الحديث، لأنها تفسر، بحسب أرمسترونغ، كيف انبثقت الطريقة العلمانية في الحكم إلى الوجود، فالخلاف اللاهوتي إبان حركة الإصلاح ألهب الكاثوليك والبروتستانت إلى درجة أنهم اقتتلوا في حروب لا معنى لها، إلى أن تم احتواء العنف أخيرا عبر نشوء الدولة الليبرالية التي فصلت بين الدين والدولة.
لكن هذه الحروب في حقيقتها لم تكن دينية بالمعنى المتعارف عليه حاليا، وإلا "لما أمكننا أن نرى الكاثوليك والبروتستانت يقاتلون في الصف نفسه.. وبالتالي يقاتلون أتباع مذهبهم في الجانب الآخر".
تحول الأصوليون المسلمون أحيانا إلى العدوان المادي، بعكس البروتستانت الأمريكيين مثلا، لكن هذا ليس بسبب أن الإسلام بطبيعته ميال للعنف أكثر من المسيحية البروتستانتية، إنما لأن المسلمين واجهوا دخولا فجا للحداثة إلى عالمهم
كان الصراع في جوهره بين حكام وأمراء أوروبيين يسعون "لخلق حكم مطلق في دولهم، قلقين من النجاح الفائق للهابسبورغ ـ وامبراطورهم شارلز الخامس ـ الذين كانوا يحكمون الأراضي الألمانية وإسبانيا وجنوب هولندا في تلك الفترة.. فاصطدم طموح تشارلز لبناء امبراطورية موحدة على غرار النموذج العثماني بالديناميكيات التعددية في أوروبا التي كانت تتجه نحو الدولة القومية".
لم تقم هذه الحرب لأسباب دينية والكثير ممن قاتلوا إلى جانب الطرفين قاتلوا من أجل المال كمرتزقة، والمستفيدين من هزيمة شارلز كانوا أمراء بعضهم كاثوليك والبعض الآخر بروتستانت.
تقول أرمسترونغ: "إن هذا الأمر ينسحب أيضا على الحروب الدينية الفرنسية (1562 ـ 1698) فقد كانت أكثر من مجرد حرب بين الكالفنين والهوغونوتيين من جهة وبين الأغلبية الكاثوليكية من جهة أخرى.. كانت هذه الحروب تنافسا سياسيا بين فصائل الأرستقراطيين".
العاطفة الدينية كانت حاضرة عند المشاركين في هذه الحروب لكن أرمسترونغ تذكّرت بأن الدين حتى ذلك الوقت لم يكن شأنا منفصلا عن الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية، "التمييز لم يقم حتى إعلان الفصل الرسمي للكنيسة عن الدولة، والذي قام به فلاسفة الحداثة الأوائل ورجال الدولة... كان البشر يتصارعون لأجل تصورات ورؤى مختلفة عن المجتمع، ولكنهم.. لم يقوموا بالتفرقة بين ما هو ديني وما هو زمني/ دنيوي".
مع جون لوك (1632 ـ 1704) أحد أشهر مؤسسي الأخلاق الليبرالية للسياسة الحديثة ولدت "أسطورة العنف الديني". وجد لوك أن الفصل بين السياسة والدين جزء من طبيعة الأشياء، وهو أكثر الأشياء ضرورة لخلق مجتمع يعمه السلام، لكن علمانيته كان لها جانب "مظلم"، ففي الوقت الذي كان يدعو فيه إلى تقبل وجهات نظر الآخرين والتسامح، كان لوك مؤيدا لـ "السلطة المطلقة، الاعتباطية والاستبدادية للسيد على العبيد والتي تتضمن القدرة على قتلهم في أي وقت، وكان متورطا بشكل مباشر في استعمار كارولاينا، وحاجج بأن الملوك المحليين (السكان الأصليين) في أمريكا ليس لديهم الحق القانوني في امتلاك أراضيهم".
تقول أرمسترونغ:" بدأ يظهر نظام جديد من الاضطهاد البنيوي الذي سيفضّل ويميز الغرب الليبرالي والعلماني على حساب السكان المحليين في المستعمرات".
إصلاح تعسفي
"الدين يقاوم"، عنوان أحد فصول كتاب أرمسترونغ، تناقش فيه كيف ظهرت في القرن العشرين محاولات عديدة لمواجهة إقصاء الدولة الحديثة للدين ودفعه إلى الحيز الخاص، الأمر الذي وجد فيه العلمانيون محاولة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، غير أن العديد من الخبراء والباحثين رأوا في ذلك حركات ما بعد حداثية ذلك أنها، بحسب أرمسترونغ، تعبر عن حالة من عدم الاكتفاء والرضى عن عدد من الأسس التي قامت عليها الحداثة، ورغبة بأن يؤدي الدين دورا أكبر في الحياة العامة. هذا النمط من التدين أطلق عليه "الأصولية" وهو مصطلح غير واف ويفترض أنه يتعامل مع ظاهرة موحدة، في حين أن الحركات من هذا النمط رغم اشتراكها في العديد من الصفات إلا أن لكل منها أهدافها ودوافعها الخاصة التي تختلف باختلاف واقعها الثقافي والجغرافي.
تنظيم الدولة الإسلامية تنظيم حداثي تماما، بإدارة محترفة لأصول مالية تقدر بـ 2 مليار دولار.
تقول أرمسترونغ: "تحول الأصوليون المسلمون أحيانا إلى العدوان المادي، بعكس البروتستانت الأمريكيين مثلا، لكن هذا ليس بسبب أن الإسلام بطبيعته ميال للعنف أكثر من المسيحية البروتستانتية، إنما لأن المسلمين واجهوا دخولا فجا للحداثة إلى عالمهم. في الوقت الذي لم يتعرض فيه البروتستانت في أمريكا للاضطهاد أو التضييق عليهم. فبعد سقوط الدولة العثمانية رسم البريطانيون والفرنسيون الحدود بصورة تعسفية، وأسسوا انتدابات وحكومات موالية جعلت من إقامة دول قومية على الطراز الغربي أمرا في منتهى الصعوبة. كما أن التقسيم البريطاني لشبه القارة الهندية إلى الهند الهندوسية وباكستان المسلمة كان أمرا إشكاليا، حيث أقيمت كلتا الدولتين على أساس علماني باسم الدين!. وبالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط اختبر المسلمون حكما علمانيا للقوى الاستعمارية قائم على العنف العسكري والبنيوي.. وحين غادر المستعمر ترك المنطقة تحت حكم طبقة ارستقراطية قديمة عاجزة عن التحديث".
تضيف أرمسترونغ: "في معظم الحالات حصلت انقلابات عسكرية من قبل الضباط الإصلاحيين الذين كانوا الفئة الوحيدة من الشعب التي تلقت تعليما على الطراز الغربي: رضا خان في إيران (1921)، أديب الشيشكلي في سوريا (1949)، جمال عبد الناصر في مصر (1952)، كان التحديث الذي قام به هؤلاء سريعا وسطحيا، بل وكان أحيانا أكثر عنفا من الأوروبيين.. كما أنهم قاموا بقمع المعارضين لهم ولم يتمكنوا من استيعاب تعقيدات عملية التحديث. بدا واضحا أن العلمانية لم تجلب معها الحرية والسلام، بل أن محاولات فرضها استفزت الحذر والسلوك الرجعي في مواجهتها. ويمكن القول أن التطرف الديني" في كثير من الأحيان يتطور في علاقة تكافلية مع العلمانية العدوانية والشرسة".
عنف حداثي
في تعليقها على ما يشهده عالمنا اليوم من عنف الجماعات الدينية ترى أرمسترونغ أنه "جزء من مشهد الحداثة" وأنه "ليس نبتا غريبا"، وتقول: قد يبدو للمراقب أن الوحشية البشعة لمقاتلي الدولة الإسلامية ـ (على سبيل المثال) ـ بسيوفهم ووجوههم المقنعة وقطعهم للرؤوس، تنتمي إلى زمن ماض، ولكن القتل الجماعي كان بالتأكيد جزءا مأساويا من التجربة الحداثية.. علينا فقط أن نسترجع قطع الرؤوس العلني لـ 17 ألف رجل وامرأة وطفل في أثناء الثورة الفرنسية، التي أقامت دولة علمانية في أوروبا، ومذابح الأرمن، والهولوكوست النازية".
وتضيف: "في الواقع فإن تنظيم الدولة الإسلامية تنظيم حداثي تماما، بإدارة محترفة لأصول مالية تقدر بـ 2 مليار دولار. ليس هناك ما هو غير عقلاني في فيديوهات الإعدامات البشعة التي يبثها التنظيم، فهذه الفيديوهات مصممة لتحقيق هدف استراتيجي هو إثارة الرعب، وهي تستدعي تكتيكات الخمير الحمر، والحرس الأحمر الذين حاولوا أيضا أن يطهروا البشرية من الفساد والخراب".
الإرهاب الذي يستنكره الجميع هو في جزء منه ناتج عن السلوك الغربي
ورغم ميل الغربيين الشديد لاعتبار تنظيم الدولة الإسلامية كدليل قاطع على عنف الإسلام نفسه فإن أرمسترونغ ترى فيه تحالفا غير مقدس بين "الدين" المغشوش وأسوأ أنواع "العلمانية" في إشارة إلى الانتقائية الواضحة في توظيف آيات القرآن من قبل أعضاء التنظيم، وتحالفهم الوثيق مع أعضاء حزب البعث المنحل في العراق، لكن مثل هذه الحقائق يتم تجاهلها في الإعلام الغربي بحسب أرمسترونغ التي ترى أن الإرهاب الذي يستنكره الجميع هو في جزء منه ناتج عن السلوك الغربي. "فعندما يقتل المسلمون في سوريا وفلسطين ونيجيريا وباكستان والعراق، وهي الدول التي (أسهم الغرب) في تشكيل مصائرها المأساوية فإن على الغربيين أن يدركوا بأن صوت دماء إخوتهم صارخ إليهم من الأرض".