السؤال الذي يضغط أعصابي منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا ويشعرني بظلم مقيت وإجحاف بغيض؛ هو: لماذا ليس لدي أب مثل جميع أطفال العالم؟ لسنوات عديدة، اختُزل أبي في نظري بصورة كبيرة الحجم داخل إطار مذَّهب معلقة على الجدار، يظهر فيها شاب مبتسم، حوله ورود وخلفه رُسمت خارطة، قيل لي إنها خارطة بلادي.. علمت منذ صغري أن هذا الرجل هو أبي. قد يكون شخص ما أخبرني بذلك، وربما أكون قد عرفت ذلك بفطرتي.. على كل حال لن أولي هذا الجانب أهمية كبرى لأن جميع الاحتمالات سيان.. ولكن: لأعود من ذي بدء.. أين أبي؟ ولماذا لا يعود إلينا كل مساء مثل أطفال الحارة وأقاربي من الأطفال وزملائي في الصف؟
كنت أتلقف إجابات أمي فأؤمن بها إيماناً مطلقاً لا يقبل النقاش والتأويل، ولكني الآن أشعر بشيء يتغير داخلي.. يدفعني لأن أستفسر وأسأل، وأستجلي الحقائق بنفسي. أشعر بي بحاجة لرجل يدعمني، ويشعر بهموم من هم مثله من الرجال.. رجل أسأله ما أشاء، فيجيبني بالحقيقة دون مواربة.
في السنوات الثلاث الماضية كنت أعود من مدرستي في نهاية العام الدراسي راكضاً نحو الصورة المعلقة على الجدار صارخاً: أبي.. أبي.. ها هي ذا الشهادة.. أنا الأول على الصف.
وعندما يُكرِّمني الشيخ في المسجد لأنني حفظت جزءاً جديداً من القرآن، أو يمنحني المدير شهادة تقدير وتفوق.. كنت أفعل الشيء ذاته. كنت سعيداً حين أريه الشهادة فأشعر بابتسامته تتسع، وألحظه ينظر إلى بفخر وإعجاب..
ولكن هذا العام اختلف الوضع.. بفتور أصبحت أمرُّ من أمام صورته، فأراه يثبت نظره على الجدار المقابل.. ابتسامته متحجرة خاليه من الحياة، وكأنه يعزل نفسه عني وعن ما أشعر به..
فتصرخ نفسي قائلة: أبي.. أحتاجك إلى جانبي.. أقسم بأني أحتاجك.. لماذا لا تتكلم معي؟
صحبتُ صورته ذات ليلة معي إلى الفراش، رجوته أن يحكي لي قصة ما قبل النوم، مثل تلك التي يرويها والد صديقي جهاد له كل ليلة.. ولكنه آثر الصمت، ولم ينبس ببنت شفة. اضطررت للصمت احتراماً لرغبته ومشاعره.. فقد يكون متعباً، أو أن الملل قد أصابه من جلوسه الطويل داخل هذا الإطار المعلق على الحائط.. نمت وأنا أكبت دموعي وأخبئها عنه، فلا أريد للحزن أو القلق أن يجد له مكاناً في قلبه إن لاحظ دموعي أو سمع شهقات بكائي.
- أبي، بالله عليك، أخبرني متى تعود؟؟ وكيف تعود؟؟ أعدك بأن أنظف البيت والحي بل والشارع كله.. وأعدك أن أزين المنطقة، سأنير فيها الأضواء اللامعة ذات الألوان الجميلة البراقة.. سأنفخ البالونات وأكتب عليها عبارات الترحيب.. وأحضِّر لك أجمل هدية..
أنت فقط أخبرني: متى ستعود؟؟
أتمنى أن تصحبني إلى الملعب، أو المسبح أو المتنزه، أو نذهب معاً في رحلة إلى أحضان الطبيعة مثلما يفعل زملائي وآباؤهم.. ولكنك لم تأت حتى الآن يا أبي لنتفق على التفاصيل.
ها أنذا أكبر، أبحث عن قدوة أمامي، رجل أراه بعيني.. أقلده، أفعل مثلما يفعل، أمشي مثله، أتحدث بطريقته، وأحاكي طريقته في الضحك، وأسأله فيجيبني.. بيد أني لا أجد..
غبت عني يا أبي وتركت في قلبي فجوة عميقة لم أجد من يردمها هوَّتها، أو يملأ فراغها.. فماذا بوسعي أن أفعل؟؟
تيار عاتٍ يجرفني، أقاومه بقوة، ولكني بتُّ أخشى أن أفقد السيطرة على نفسي يوماً فأقع.. أسقط.. أنتهي.. فلا أعود جديراً بأن أكون ابنك.. أن أكون الشبل الذي يشبه ذاك الأسد الرابض هناك.. خلف الإطار الذهبي، يحدق بي مترقباً.
سامحني يا أبي.. سامحني
فما أنا إلا مجرد شاب استشهد أبوه وقدوته، وجار عليه الزمان وذوو القربى.. يشعرني الناس بكلامهم عنك وتحسرهم على شبابك بأنك كنت مذنباً حين اخترت وطنك وتركتني خلفك وحيداً..
ولكني أطمئنك يا أبي.. فأنا أسامحك.. بل سأكون مثلك وأسلك دربك.. لأنك قدوتي..