إثر مراسم الجنازة التاريخية للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، تمضي البلاد التونسية قدما نحو استحقاق انتخابي رئاسي. فبعد قرابة 45 يوما سيختار الشعب رئيسا جديدا في إطار يكفله الدستور وتحميه دولة القانون والمؤسسات.
وستكون تونس يوم 15 أيلول/سبتمبر المقبل مع انتخابات رئاسية ومنافسة محتدمة بين المترشحين. موعد حدّدته الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بصفة استثنائية بعد وفاة رئيس الجمهورية، ثمّ تليها الانتخابات التشريعية في 6 تشرين الثاني/نوفمبر القادم.
وهذا التغيير المفاجئ للأجندة الانتخابية أدخل إرباكا عند الفرقاء السياسيين، خاصة مع تزامن التاريخ الجديد للرئاسية مع بداية الحملة الانتخابية للتشريعية. فما هي سمات مرحلة الانتخابات الجديدة وسط واقع سياسي ضبابي وغير واضح المعالم؟
منذ أيام تلقت تونس خبر وفاة رئيسها بهدوء يشوبه الحزن، ومضت مؤسساتها إلى إنهاء الإجراءات الدستورية.
من جهتها قامت الهيئة العليا المستقلّة للانتخابات بتغيير أجندتها، وذلك بموجب الدستور القاضي بتولي رئيس مجلس النواب رئاسة الجمهورية، في حالة الشغور التام للمنصب بصفة وقتية من 45 إلى 90 يوما.
فتقديم تاريخ الانتخابات لشهرين ثمّ اختصار فترة الحملة الانتخابية إلى 12 يوما فقط عوضا عن 21 يوما، يجعل السباق الانتخابي أشبه بماراثون تنافسي حامي الوطيس، وفِي الآن ذاته يقطع الأمل أمام "المتسلقين" لهذا المنصب دون برامج مقنعة ومن غير قاعدة شعبية يعول عليها، أو خبرة كافية لمواجهة الفترة القادمة.
الشارع التونسي
عايش الناخب التونسي منذ ثماني سنوات سمان وعجاف خلت، ومنذ انطلاق الشرارة الأولى وحرق محمد البوعزيزي نفسه في قلب الجنوب التونسي ثورة على البطالة والتهميش والفساد و10 حكومات، ومارس حقّه الانتخابي ثلاث مرّات بما كفلته الثورة مرة سنة 2011 لانتخاب المجلس الوطني التأسيسي، ثمّ إثر إتمام صياغة الدستور سنة 2014 لاختيار رئيسه ولترشيح ممثّليه في مجلس النواب.
وآخر مرّة كان لاختيار ممثّليه في الحكم المحلي في انتخابات بلدية وحيدة وفريدة من نوعها في تاريخ البلاد.
هذه التجربة التي عاشها الناخب، تجعله خبيرا "محنّكا" في اختيار من يمثّله بكلّ إرادة حرّة ومستقلّة عن أي ضغوط، وبمنأى عن المشادات والمناوشات السياسية.
لكنّ بعض القراءات واستطلاعات الرأي ذهبت إلى أنّ الناخب سيكون غائبا عن الانتخابات القادمة، سواء بالعزوف إن لم يكن حاضرا بصفة صورية فقط عبر الانتخاب الغاضب أو التصويت العقابي، الذي يقتضي التصويت ضدّ الأحزاب الحاكمة التي تعتلي المشهد السياسي الحالي كحركة النهضة وحزب نداء تونس.
لكنّ حدث وفاة الرئيس عمل دور "الرجّة" في صفوف التونسيين الذين توحّدوا رغم اختلاف مشاربهم. وربّما أيضا ستدفعهم إلى المشاركة بأعداد وفيرة وغير متوقّعة، مشاركة تذكرنا بالانتخابات التي عاشتها تونس إثر الثورة مباشرة.
المشهد السياسي
بلغ عدد الأحزاب السياسية اليوم في تونس 217 حزبا، وهو رقم يذكّرنا أيضا بعدد النوّاب في البرلمان.
لكن الحقيقة المؤكّدة أنّه ليست كلّ الأحزاب مؤهّلة فعليّا لخوض غمار السباق الانتخابي سواء الرئاسية أو حتى التشريعية، نظرا لحداثة وقصر عمر التجربة السياسية للبعض ولضعف الموارد المالية للبعض الآخر، فالانتخابات تستوجب التواصل المباشر مع الناخب في كلّ ولايات الجمهورية، وهو ما ليس متاحا للجميع.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ التجارب السابقة لممارسات الأحزاب الخاطئة مثل التلاعب بعواطف الناخبين وإطلاق شعارات براقة وغير منطقية وتجييش الفضاء العام وشحنه بمشاعر الكراهية والعداء للمخالفين إلى جانب اعتماد التمويلات المشبوهة حجبت الثقة بينها وبين الناخب، وفي الوقت نفسه مثل هذه الممارسات لا تسمح باستقرار الحياة السياسية للحزب وللمشهد السياسي بصفة عامّة.
من جهة أخرى تعتبر التحالفات والائتلافات هي المخرج الوحيد لهذا الاستحقاق الانتخابي.
فحتّى الأحزاب الحاكمة الحالية على غرار حركة النهضة التي شهدت الفترة الأخيرة عديد التجاذبات الدّاخلية، أو حزب نداء تونس الذي عاش تفكّكا وتصدّعا بين رموزه الكبرى، الأمر الذي يجعل كليهما عاجزا أن يكون المسيطر الوحيد في هذه الانتخابات. خاصّة بعد انفراط العقد الذي جمع الحزبين فيما يعرف بلقاء باريس بين السبسي والغنوشي، الذي أنقذ البلاد من بركان الثورة المضادة.
فحركة النهضة اليوم تذهب بقوّة إلى الانتخابات التشريعيّة القادمة المقرر إجراؤها في 6 من تشرين الأول/أكتوبر المقبل. بعد أن قدّمت رئيسها الشيخ راشد الغنوشي للترشح للانتخابات التشريعية على رأس قائمة تونس 1، في حين مازالت لم تعلن مَنْ مِنَ المرشحين ستدعمه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
لكن لا يخفى أنّ شقا كبيرا من النهضة قام بمساندة الحكومة الحالية، وعلى رأسها يوسف الشاهد فترة التصدّع الذي شهده النداء مع شق ابن الراحل حافظ السبسي ومحسن مرزوق، ويرى مراقبون أنّه إذا بقيت هذه المساندة ربّما نرى الشاهد رئيسا لتونس، في المقابل تحظى حركة النهضة على نسبة كبيرة من الحكومة.
وهذا التوجه يدعم تصريحات كوادر الحركة بأنّها ترمي إلى المشاركة في الحكم وليس الاستحواذ عليه، رغم ضعف هذا السيناريو مع تراجع شعبية الشاهد في الأزمات الأخيرة التي عاشتها تونس.
لكن بالتطلّع إلى المترشحين للرئاسة، فإنّ الشخصيات الإجماعية التي لها الحظ الأوفر من ناحية التجربة السياسية، والرصيد الجماهيري الذي يساندهما، وتفاعلات الاستحقاق الانتخابي، هي رئيس الجمهورية الأسبق محمد المنصف المرزوقي، ومصطفى بن جعفر رئيس مجلس النواب.
ورغم أنّ باب الترشّح للانتخابات الرئاسية سيفتح في 10 من آب/أغسطس القادم، إلاّ أنّ الصراع على هذا الاستحقاق سيكون على أشدّه، خاصّة مع عدد الذين أعلنوا عن نيّتهم للترشّح في أوقات سابقة.
إلاّ أنّ تقديم الموعد الانتخابي المفاجئ وتغيّر الأجندة الانتخابية سيغير آراء الكثير منهم لعدم استعدادهم. وربّما يفرز لنا السباق الانتخابي القياسي وجوها أخرى غير متوقّعة، لكن قادرة على إدارة دفّة البلاد!!
تحديات جمّة
وبعيدا عن المشهد الناجح للتجربة الديمقراطية التونسية، التي لا يختلف اثنان في تميّزها سواء كبلد من بين بلدان ثورات الربيع العربي، أو كدولة في محيط عربي وأفريقي يتّسم بعدم الاستقرار، وهذا النجاح سيظلّ عالقا بتونس، بل سيضعها إزاء مسؤولية وطنية وإقليمية في المحافظة على هذه الصورة المشرقة، بل وتصديرها إلى الجوار.
وفي الآن ذاته لا بدّ لنا من الإقرار بأنّ الوضع التونسي الرّاهن يشهد عديد المطبّات، وجملة لا بأس بها من التحدّيات ولا يخلو من الصعوبات. ففي الجانب الاقتصادي ترزح تونس تحت وطأة مديونية عالية، إلى جانب غلاء المعيشة المتفاقم.
من جهة أخرى تراجعت نسبة النموّ الاقتصادي إلى 1.1 بالمئة في النصف الأول من هذه السنة، وذلك لعدّة عوامل منها سياسية، كما ذهب بعض الخبراء أنّ ذلك يعود إلى الضعف الذي تعيشه بلادنا خاصة مع تنظيم الانتخابات، وضعف أداء البرلمان خاصة فيما يتعلّق بالإصلاحات الاقتصادية الكبرى.
أما الجانب الاجتماعي، فيشهد احتقانا خاصة مع تفاقم البطالة وضعف المقدرة الشرائية للمواطن، علاوة على تهاوي الدينار، إلى جانب تفشي مظاهر التباين بين المدن والمناطق الداخلية الريفية الفقيرة.
فتونس اليوم إزاء أولويات كبرى في مقدمتها الحرب على الإرهاب والفساد وترسيخ الديمقراطية وتوفير مواطن الشغل، وخلق ظروف ملائمة للعيش الكريم وجلب الاستثمار داخليا وخارجيّا وبالجهات الداخلية المهمّشة.
فالمأمول من الفرقاء السياسيين خصوصا العازمين على تصدر المشهد، أن يكون لديهم مشروع وطني متكامل ينعش الجانب الاقتصادي، إلى جانب ضمان التوزيع العادل للثروات لجميع سكان البلاد التونسية دون جهويات، والاستجابة لمطالب الشعب الملحة وتطلعاته.
ورغم تصاعد الملمح التنافسي بين السياسيين، إلاّ أنّ الفترة القادمة في تونس ليست مستعدّة لتجربة سياسية غير مأمونة العواقب، بقدر ما هي فترة تغليب مصلحة البلاد والعمل الجاد والمسؤولية السياسية والأخلاقية للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة.