تستمر العمليات العسكرية المشتركة لتحالف نظام الأسد مع الإيرانيين والروس على محافظة إدلب السورية ومحيطها القريب من أرياف محافظات حماة وحلب واللاذقية منذ شهر مضى، وتتواصل غارات الطيران الحربي الروسي وصواريخه إلى جانب شقيقاته من حوامات نظام الأسد، التي تلقي البراميل المتفجرة، فيما تتشارك قوات النظام والإيرانيون ومليشياتهم في الهجمات الأرضية، بدعم جوي من طائرات الروس والنظام.
وتشكل العمليات العسكرية خرقا لاتفاق مناطق خفض التصعيد، الذي توصلت إليه الدول الراعية لمفاوضات «آستانة»، ووقّعته تركيا وروسيا وإيران في مايو (أيار) 2017. وشمل في حينها 4 مناطق، آخرها إدلب. الأمر الذي جعل إدلب ملاذا لمن غادروا المناطق الثلاث الأخرى الأولى، التي استعادها نظام الأسد، بمعونة الروس والإيرانيين في العامين الماضيين، في خروقات تماثل خرق الاتفاق في إدلب، ما يؤكد أن هدف العمليات الراهنة النهائي استعادة سيطرة النظام على إدلب ومحيطها، وهو ما يفسر عنف هجمات النظام والإيرانيين من جهة، وسعي الجماعات المسلحة في إدلب للدفاع عن معاقلها الأخيرة.
لقد تسببت الهجمات على إدلب في الشهر الماضي بمقتل نحو 500 قتيل من المدنيين، أغلبهم من النساء والأطفال، إلى جانب آلاف الجرحى. وقارب عدد المهجرين الفارين من قراهم ومدنهم 100 ألف نسمة، أغلبهم مشرد في حقول الزيتون والأشجار، فيما انضم قسم منهم إلى سكان مخيمات البؤس في الشمال السوري، وجرى تدمير واسع للمنشآت العامة، وخصوصا للمشافي، إضافة إلى آلاف البيوت والمحال التجارية، وتدمير وسرقة المحاصيل الزراعية، ما أدى إلى تردٍّ متزايد في مستوى حياة السكان، من خلال تدمير ممتلكاتهم، وفرض أعباء جديدة عليهم، وضياع فرص حياتهم، التي كانت قائمة، رغم ضعفها وتدهورها.
والنتائج السابقة بمأساويتها، لا تمثل سوى القليل من نتائج أشد فظاعة ستحدث، إذا مضت العمليات العسكرية نحو هدفها النهائي باستيلاء النظام على إدلب، التي تضم اليوم نحو 4 ملايين سوري، سيقعون في عمق كارثة إنسانية غير مسبوقة، ملامحها قتل وجرح وتشرد وفقر وجوع، ما يثير مخاوف كثير من الدول، في مقدمتها تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، الذين يتوقعون موجة جديدة من اللاجئين السوريين، يمكن أن تفوق موجة عامي 2014 - 2015. كما يثير الأمر حفيظة منظمات الإغاثة الدولية، التي باتت عاجزة عن تأمين مزيد من احتياجات النازحين واللاجئين.
ورغم وضوح الاحتمالات المأساوية المحيطة بإدلب وجوارها، فإن ردة الفعل الدولية وفي الأمم المتحدة، بين سكوت يقارب الإهمال، وتحرك بطيء يقارب رفع العتب، ما يعكس تدنيا في مستوى المسؤولية الدولية في مستوياتها السياسية والأخلاقية والإنسانية؛ حيث تُترك العمليات العسكرية للاستمرار والتصاعد، ومعها يتصاعد القتل والدمار وعمليات النزوح، دون التوصل إلى اتفاق على سياسات أو اتخاذ خطوات عملية لإيقاف الكارثة عند حدودها الراهنة، ومتابعة عملية سياسية تعيد القضية السورية إلى إطار الحل الدولي وفق جنيف، وما طرأ عليه من تطورات وملحقات.
الحجة الأساسية لموقف التراخي الدولي والسكوت عن العمليات العسكرية في إدلب ومحيطها، هو القول بوجود جماعات إسلامية متطرفة في المنطقة، وهو تعبير فضفاض، يبدأ من حدود أن المقصود به وجود «جبهة تحرير الشام» («النصرة» سابقا)، ثم يتم تمديده ليشمل كل التشكيلات المسلحة، ثم يمدد ليشمل كل سكان المنطقة، على اعتبارهم حاضنة للمتطرفين، وهذه مقولة نظام الأسد على الأقل، ولا تختلف كثيرا عما يقوله نظام ملالي طهران في وصف سكان إدلب ومحيطها.
وهذه الحجة لا يمكن الاستناد إليها في تبرير عمليات القتل والتدمير والتهجير الراهنة، التي تركز على الأهداف المدنية من سكان ومنشآت أساسا، خصوصا أن مساعي سكان إدلب ومحيطها طوال السنوات الماضية انصبت باتجاه تمييز أنفسهم عن جماعات التطرف، والعمل على مقاومتها بكل السبل المتاحة، وهذه حقيقة لا تحتاج إلى تأكيد ولا برهان، ففي العام 2014 ساهم سكان إدلب ومحيطها بصورة رئيسية في طرد مسلحي «داعش» من المنطقة، وقدّموا مئات الشهداء في المواجهات العسكرية مع «داعش»، بالتوازي مع نشاطات مدنية دعمت الجهد العسكري، وتكررت الجهود ذاتها مرات في العامين الأخيرين في مواجهة «هيئة تحرير الشام»، ليس فقط من خلال إطلاق نشاطات ومبادرات مدنية في أنحاء مختلفة من المنطقة، بل في الدخول في صدامات مع سياسات التطرف والتشدد، ورفضا لوجود تنظيماتها المسلحة وسياساتها، واعتراضا على تحويل سكان إدلب إلى دروع بشرية ورهائن لجماعات التطرف.
لا بد أن تجتهد الأمم المتحدة لإيجاد سبيل لوقف العمليات العسكرية على إدلب، فقد بات ذلك أمرا ضروريا، لأن المأساة الإنسانية المتواصلة بلغت حدودا يصعب احتمالها، والانتقال منها نحو تنشيط عملية سياسية لمعالجة الوضع في إدلب في إطار عملية الحل السياسي لعموم القضية السورية. وإن لم يحدث ذلك، فالاحتمال الممكن انتقال إلى انفجار كارثة عميقة في إدلب ومحيطها، وعندها سيكون من الصعب التعامل مع نتائج ما يحدث من تطورات في المنطقة ومحيطها الإقليمي.
عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية