أسباب كثيرة تدعو لإدراج
الثورات المضادة في العالم العربي ضمن تجارب "ثرية وبليغة"، من ناحية نجاح
بعضها في الاصطفاف ضمن بوتقة وهدف واحد، ولما تركته من آثار هائلة أكسبت النظام
العربي خبرات في مصر واليمن وسوريا والسودان وليبيا، خاصة خبرة قيادة
الثورة
المضادة والتفنن على الوحشية، وصمود كتلتها الصلدة أمام الميادين العربية، لذلك
استفاد نظام الحكم في هذه الدول من سلوك بعضه في طريقة التخلص أو الانقضاض الدموي
على الشارع الثائر، والمعتصم ضد السلطات الحاكمة بشكل سلمي، وصولا لاستخدام نفس
العبارات والشعارات التي تبرر لجوء الأنظمة لحالة القمع الدموي، أو استنساخ
المذابح في ميادين الاعتصام.
انتماء معظم العقلية
الحاكمة، في العالم العربي، إلى نمط وحيد في انتزاع أرواح الشباب العربي ومحاولة إجهاض
التغيير المنشود في الحرية والكرامة والمواطنة، وإقامة أنظمة مدنية، لا تنفي
اختلاف الطبيعة التي تجمع هذه النظم، والتي تتطور شيئا فشيئا، في وحدة اختيار عدو
مناسب للجميع "الإرهاب" ولصقه بمعظم الثورات والمعارضين لنظام الحكم، ويصبح
معيار النظام العربي مقياسا يتبناه مفكرون ونخب على نغم الأنظمة، في لحظات يختفي
التناقض بين هذه الأنظمة، وتلتقي في غرف مغلقة وسرية، إن كان الأمر متعلقا بمصيرها،
فتسارع إلى مد الجسور، والحفاظ على شعرة التواصل حتى مع الشياطين كي تبقى في سدة
السلطة، فتُبدل شعارات التكامل الاقتصادي والوحدة، إلى تعاون عاجل في تبادل
المعلومات وتزويد بعضها في وسائل التآزر القمعي..
تأتي التطورات التي تعقب
لجوء هذه النظم، لنفس الأساليب واستخدام ذرائع متطابقة، في الوحشية ضد الإنسان
العربي، وعلى نطاق واسع من إحداث المذابح، عبر بث مباشر من على شاشات التلفزة، حتى
يتسنى للبعض الآخر مواكبة عمل العصابات والشبيحة والبلطجية، التي تتكون منها معظم
أجهزة النظام العربي الأمنية.
في هذا الأمر انتقلت عدوى
تصنيف الثورات والانتفاضات، لبعض المراتب الثقافية والفكرية والسياسة، وهي مثلت
مدخلات جديدة تدعم شمولية النظم الوحشية، وتعلي من شأن شعارات ومبررات حتى لو
افقدتها معظم ما كانت تدعيه في السابق، ولتؤكد على ارتباطها الوثيق مع أنظمة قاتلة
ومستبدة وشمولية في القمع.
مركز الثقل في تلك الشمولية،
نظام بشار الأسد، الذي أخذ عنه ومنه قادة الثورات المضادة الجرعات الدموية، التي تُعيد
للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وهم هيبة السلطة وزراعة الرعب مجددا في
قلوب من يدفع أغلى الأثمان، راقبَ قادة الثورة المضادة في الرياض وأبو ظبي ودمشق
وتل وأبيب وطهران وموسكو، أداء العصابة الحاكمة في دمشق، وأبقى بعضهم على خيوط
التواصل الأمني والسياسي، وبقيت بعض سفارات النظام أوكار لقيادة الثورة المضادة، وبإشراف
وتراخ غربي وإقليمي يخدم شمولية الأجندة المتحدة في القمع
فلا يمكن أن تنجح الثورة
المضادة في مصر دون خيمة وعباءة الدم التي وفرها ويوفرها الأسد للجميع. ولا يمكن
أن ينجح عسكر السودان، من فرض تقليد وحشي بالانقضاض على ميادين الاعتصام، دون
الاستفادة من أقرانه في القاهرة وجيرانه أبطال المجازر، وفي ظل استمرار الأسد في
دك مدن
سوريا بالفسفور الأبيض، مقابل مجتمع دولي يتجابن أمام استخدام الطغاة مختلف
أنواع السلاح المحرم.
اليوم تكتمل دائرة الجرائم
في سورية، بالوصول لذروتها في الشمال السوري، كل ذلك سلح الأنظمة التي تقود
الثورات المضادة بروح عالية، وجرأة على تنفيذ قمع شامل، ومنحت الوقت بصمتها المدهش
عن جرائم الأسد، كي ينجز مهام سحقه للمجتمع السوري، كي يتماهى النظام العربي
بشموليته القمعية والقهرية، للشارع الذي روعته معايشته لأنظمة بوليسية تحولت في
مسلكها لأنظمة مجرمة محمية من قوى إقليمية ودولية، ولتبدو مظاهر القمع في الميادين
كافة وفي السجون والمعتقلات المتحولة لمسالخ بشرية، ظاهرة طبيعية لمآل الثورات.
لذلك يمكن القول إن الثورات
المضادة في مصر والجزائر واليمن والسودان وليبيا، تأثرت بشكل كبير بسلوك نظام
الأسد، وبفترة الإنعاش الطويلة التي تسمح بتثبيت بعض من دموية النظام العربي، الذي
دعم سراً ومن تحت الطاولة هذا السلوك، حتى لو ادعى معارضته لهذا السلوك. فشمولية
القمع العربية بحد ذاتها، بالغة الأهمية لهذه الأنظمة على اختلاف وظائفها، حيث
تستوعب جميعها تجربة الأسد الوحشية لتوظيفها في إعادة بعض من قدرية العربي
المهزومة والتي ستهزم كل الشموليات.