مرت سنتان منذ أن فرضت السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين الحصار على دولة قطر، وعلى المستوى التاريخي يمكن اعتبار عامين مدة زمنية قصيرة نسبيا، أما في مقياس العالم السياسي والاقتصادي والدبلوماسي للقرن الحادي والعشرين، فهي مدة طويلة جدا.
وواقع الحال يقول إن كلا من الحكومة والمواطنين القطريين تمكنوا من التكيف مع الظروف، وهذا يحضر لنا بالمثل الإسباني القائل: "كل حدث سيئ لا بد أن يحمل معه خيرا".
لا أنوي الدفاع عن فكرة أن الحصار جلب مناخا إيجابيا لشعبنا، سأتناول الواقع تماما كما هو، حيث إنه لا يمكن تجاهل خطورة هذا الإجراء الذي تسبب في مآس حقيقية، خاصة على نطاق ضيق؛ فهناك الكثير من الأشخاص الذين يعانون الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان من قبل الدول التي فرضت الحصار. كما أن هناك العديد من الأشخاص الذين حرموا من رؤية أحبائهم، بينما اضطر آخرون إلى التخلي عن دراستهم أو وظيفتهم أو علاجه الطبي. هذه المعاناة اليومية هي ما يجب أن تهمنا وتشغلنا جميعا".
لم يتسبب الحصار بإلحاق الضرر بقطر فحسب، إنما فضح الدول التي شنت هذا الحصار، لا سيما تلك المتورطة بفضائح عالمية فظيعة، مثل مقتل الصحفي جمال خاشقجي، أو الحرب في اليمن، أو الانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان. لقد اعتقدت دول الحصار أن الوقت يلعب لصالحهم، وأنه سيؤدي إلى استسلام قطر، وقبولها بالشروط المفروضة تحت الضغط. غير أن مرور الأشهر ساهم في تسليط الضوء على نقاط ضعف تلك الدول، كما أنه ساهم في فتح عيني المجتمع الدولي على واقع دول الخليج، خاصة فيما يتعلق بالانفتاح واحترام حقوق الإنسان".
لقد أثبت هذا الحصار زيف الاتهامات الموجهة ضد قطر، وكشف عن الهدف الجوهري وراءه، وهو معاقبة قطر على الانفتاح السياسي وعلى دعمها للشعوب في الدفاع عن حرياتهم خلال الربيع العربي. يختلف موقفنا بوضوح عن الموقف الذي تبنته تلك الدول، التي دعمت الثورة المضادة في عدة دول مثل مصر أو اليمن أو ليبيا.
ما سبق، يجب ألا ينسينا أن مسؤوليتنا يجب أن تكون مشتركة في المساهمة في إيجاد حل قريب لهذه الأزمة العالقة منذ مدة طويلة. لطالما اختار وطننا الحوار والتفاوض، وسيواصل القيام بذلك مادامت سيادته واستقلاله مضمونين. يمكننا أن نشبه قطر بأيكيدو الجغرافية السياسية، هذا الفن القتالي الياباني الأصل، الذي يهدف إلى تغييب الضرر أو الألم وإبطال أي نوع من الهجوم، مستخدما طاقة الخصم نفسها، إضافة إلى تعزيز مناخ سلمي مناسب".
اليوم في ظل الوضع الحالي، لا بد من العودة إلى عام 2017، وتحديدا إلى الخامس من حزيران، عندما اضطرت حكومة قطر إلى اتخاذ قرارات فورية. حيث قامت بتنفيذ العديد من الإجراءات على عدة أصعدة، وبذلت على المستوى السياسي جهودا شاقة من أجل تعزيز التعاون الدولي وتوقيع الاتفاقيات وتوطيد العلاقات مع الدول الصديقة والحليفة. إن دعم الكثير من هذه الدول كان ضروريا خلال الأشهر الأربعة والعشرين الفائتة.
أما على المستوى الاقتصادي، وتبعا لتوقعات البنك الدولي، فقد حققت قطر نموا اقتصاديا بنسبة 3% خلال عامي 2019 و2020. لقد سهلت حكومة قطر قوانين الملكية للشركات الأجنبية، ومنحت تراخيص الإقامة الدائمة. كذلك أنشأت صناعات في قطاعات مختلفة، لا سيما في مجالي الزراعة والأمن الغذائي، ودعمت الشركات الصغيرة والمتوسطة، كما استقطبت الاستثمارات من خلال مركزها المالي، وتابعت استثماراتها في العديد من دول العالم.
وفي مجال السياحة، وسعت الخطوط القطرية مساراتها وزادت خدماتها، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة إلى اتفاقية الطيران الموقعة مع المفوضية الأوروبية مؤخرا، وهي الاتفاقية الأولى من نوعها بين الاتحاد الأوروبي ودولة خليجية، لتكون بذلك مرجعا عالميا.
وعلى الرغم من الأهمية الهائلة للمشهدين السياسي والاقتصادي، لا بد لنا أيضا من التطرق إلى المجالين الثقافي والاجتماعي اللذين طرأت عليهما تغييرات بارزة جدا. نستطيع القول في هذا الصدد إن وطننا يشهد ثورة يمكن مقارنتها بالنهضة الفنية في مدريد، طبعا إذا ما استثنينا المسافات وبعض الاختلافات الواضحة في خصوصية كل من الدولتين. لقد احتضنت قطر العديد من المهرجانات والفنانين من مختلف المجالات الذين قاموا بتطوير أعمالهم بشكل مكثف. ولابد من التطرق إلى دور الرياضة، فالنصر الأخير في كأس آسيا لكرة القدم، والاستعدادات لكأس العالم 2022 هي مجرد غيض من فيض من عمل شامل على جميع المستويات.
لقد ساهم انفتاح المجتمع القطري في فرض هذا الواقع بشكل كبير؛ فوفقا لاستطلاعات الرأي حول استخدام وسائل التواصل في الشرق الأوسط لعام 2018، تبين أن الحصار جعل القطريين أكثر دعما لحرية التعبير وأكثر انفتاحا في السياسة. تعيش قطر في الوقت الراهن مناخا مناسبا ومشجعا للحوار والتحليل والمفاوضات والمناقشات.
نعلم في قطر أننا في بعض الأحيان لم نتصرف بأفضل طريقة ممكنة، ولكن لدينا إصرار قوي على مراجعة وتصحيح مساراتنا، ورفض أي نوع من انتهاكات حقوق الإنسان، وتحسين قوانين وشروط العمل. وبالمثل، تحظى وسائل التواصل الاجتماعي بمساحة جوهرية، خاصة بين جيل الشباب الذين يعتبرون أنفسهم جزءا من مجتمع عالمي وحر.
إن هذا الواقع الذي تعيشه قطر يتناقض بشكل كبير مع واقع الدول التي تفرض الحصار، حيث تقوم هذه الدول بمعاقبة وسجن أولئك الذين يتخذون من التكنولوجيا المتطورة وسيلة للتعبير عن آرائهم المعارضة للأنظمة الحاكمة.
ولابد من الإشارة إلى أن مكانة المرأة محفوظة، فهي تحتل دورا بارزا في المجتمع، ذلك لأننا مقتنعون بأن التقدم لا يتحقق إلا من خلال التعاون والمساواة والاحترام.
في نهاية المطاف، صحيح أن الأشهر الأربعة والعشرين الماضية كانت بمنزلة تحدّ لبلدنا، إذ أجبرت الطبقة السياسية والمجتمع المدني على مواجهة ظرف كان من الممكن أن يجلب عواقب وخيمة، ومع ذلك، فإن العمل المشترك حوّل هذا التحدي الصعب إلى فرصة للنمو والتطور، وعزز روح التضامن والوحدة، وجعل من قطر دولة أكثر حرية وحداثة، ومثلا تقتدي به جميع دول العالم العربي.
عن جريدة الشرق القطرية