أسبوع العيد يهل علينا، فنتحرر من مشقة الصيام ويبكي المؤمنون جدا فراق الشهر الكريم في فيسبوك، وتصمت النفوس المؤمنة عن كل نفاق إعلامي. فالإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل.. الله وحده يعلم صدق إيماننا، ولا مجال لمتفيقه أن يحاسب قلوبنا على صدق المعتقد وسلامة الفعل. ولكن أسئلة تطرح (ككل عيد) حول حدود الاجتهاد في النص وشكليات التعبد. إلى متى خلاف المسلمين حول يوم العيد؟ ولماذا ينظمون حياتهم طبقا لآخر منتجات التقنية ويرفضون اعتماد التقنية الفلكية في تحديد عباداتهم؟
سقوط الاعتبار الأخلاقي لمن نصب نفسه مرجعا في الفقه
وعينا على وضع لم نجادله حق الجدال: من نصّب المرجعية السعودية على عقول المؤمنين المتعبدين؟ ومن جعل لهم يد طولى على شعائرهم؟ هذا وضع غريب، فنص الدين مفتوح والحرية أساس فيه، ولا مجال لاكلريوس ديني مطابق للكنيسة. فمقولات الأمة الواحدة تسقط إذا صارت العقيدة فروضا موجهة من جهة تحرص على جانب دون آخر.
من نصّب المرجعية السعودية على عقول المؤمنين المتعبدين؟ ومن جعل لهم يد طولى على شعائرهم؟
فتاوى إباحة بل استحباب استعمال التقنية تتعدد وتتشابه، إلا في مسألة رؤية الهلال. يقف المسلمون عاجزين عن الاتفاق حول استعمال تقنيات علم الفلك الصحيحة في تحديد مواعيد الأهلة
كأن الخلاف ضروري للبعض؛ يعيش منه ويتخذ منه رزقا حسنا. دور الإفتاء العربية تصر على الخلاف، فالمفتى شخص مجهول ومغمور، ولا علاقة له بحياة الناس اليومية، ولا دور له في الحقيقة إلا قبض مرتب وزير والتمتع بامتيازات وزارة؛ من أجل الظهور مرة في السنة ليحدد للناس يوم العيد ثم يغفل ذكره إلى العيد الموالي. وقد اتخذته الدول غطاء على حسن تعاملها مع الدين في هذا الجانب الشكلي، في حين أنها تهمل بقية جوانب الدين ومبادئه، كحفظ الأنفس والأموال والأوطان، حيث يمنع على المفتى التدخل في السياسة، حتى وهو يرى الأنظمة تقتل عامدة مواطنيها الذين يتجاهل المفتى عذاباتهم ويتمنى لهم الرحمة والقبول.
مؤسسة الإفتاء مؤسسة كنسية، وإن أنكرت وأنكر محدثوها، ليقدموا من خلالها صيغة رسمية لدين رسمي في كل قُطر، ثم لاحقا ليتم إخضاع الدين لمفت وحيد يملك الرز ولا يملك الاجتهاد؛ إلا تضييقا على حرية الناس في علاقتهم بربهم. وكمثال على ذلك، إحداث بدعة إعلان الدخول في الإسلام أمام المفتي حصرا. فكل من دخل الإسلام مر بقوة أمامه ليتم الاعتراف بإسلامه، وهو نفس التقليد الكنسي الذي يزعم تملك الوساطة مع الله.
مكنت التكنولوجيا الحديثة من معرفة مسار القمر والأهلّة في كل موضع لها من السماء، بما يسمح بمعرفة دقيقة بموعد الصيام والإفطار، والاستغناء عن مراحل الشك والانتظار التي تعطل حياة الناس في تنقلهم للمعايدة على سبيل المثال (من ضمن تعطيلات كثيرة). لكن دُور الإفتاء أمام هذا التسليم للتقنية تخسر لصالح خبير فيزياء الفضاء (عالم الفلك) الذي يأخذ منها تخصصها ويحيلها إلى البطالة، لذلك تحرص على النص (صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته. وما عهدنا النص منغلقا دون مكتسبات العلم، فقد وجد المفتون اجتهادات في قبول كل منتجات التقنية، لكن الاجتهاد فُتح في ما لا يمس مصالح حراس التقاليد، فألحّوا على النص كمنقذ من عطالة ومن فقدان لدور ومصلحة. إنها حالة من رفض العلم بحجة عدم الاجتهاد في الأصول، وهو عين التفكير الكنسي الذي رفض التقدم زمن دخول العقل البشري مرحلة التقنية.
الرفض دنيوي لا ديني
لقد حدث مثل هذا في بداية تأسيس الدولة الحديثة وإدارتها بقوانين وضعية، فاعترضت السلطان الدينية محرمة الاجتهاد (تقنيات الحكم الوضعي المستقدمة من الكفار) لأنها أفقدتها فعلا سلطتها (غنيمتها في الواقع) على السلطات الدنيوية، ولم تعد هي الواسطة بين العبد وربه، وحل محلها الوسيط التقني (الإداري الحديث) بين الإنسان والدولة، فوجدت نفسها عاطلة عن الهيمنة، فارتدت إلى تملك فقه العبادات كآخر حصن لها أمام التقنية، وهي تخسره وتكابر. ما هلال العيد إلا معركة نفوذ على المغنم، بزعم معرفة الحقيقة الدينية معرفة حصرية.
الثورة العربية أخرجت آل سعود من مرجعية الحكم باسم الإسلام وزيف خدمة الحرمين الشريفين، لتغطية نشر الناس بالمناشير باسم الإسلام