بعد العنف الذي شهدته غزة نهاية الأسبوع المنصرم، تصرفت الحكومة البريطانية بنفس الطريقة المخزية التي تصرفت بها في العام 2014 حيث رفضت إدانة قتل الفلسطينيين.
أدركت وأنا أشاهد العنف الذي ينفطر له الفؤاد في غزة نهاية هذا الأسبوع أن خمسة أعوام مرت منذ أن استقلت من منصبي كوزيرة في الخارجية بسبب العدوان الإسرائيلي على غزة في العام 2014.
من المحزن أن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أصبح أسوأ بكثير خلال السنوات الخمس الماضية.
تستمر دورة العنف بينما يستحكم الاحتلال الإسرائيلي أكثر فأكثر، ويستمر بناء المستوطنات بوتيرة أكبر، في ظل قرار الحكومة الإسرائيلية تقنين انعدام المساواة من خلال سن قانون الدولة القومية، وقيام إدارة ترامب بقتل عملية السلام من خلال الموافقة أحادياً على المطالب الإسرائيلية التي كان ينبغي أن يتم التعامل معها من خلال المفاوضات.
في العام 2014 لم يعد يخفى علي المظهر الكاذب لما يطلق عليه "سياسة بريطانيا في الشرق الأوسط"، وقد اتضح للكثيرين استحالة تحقق حل الدولتين على الرغم من أن بعض هؤلاء مازالوا يعلنون، على الأقل في العلن، تأييدهم له.
وقت استقالتي كانت لدي مسؤوليات محددة عن حقوق الإنسان ومحكمة الجنايات الدولية والأمم المتحدة. بريطانيا، وأنا معها، كنا نفاخر انطلاقاً من قيمنا البريطانية بأننا مدافعون عن حقوق الإنسان.
ولكن حينما تعلق الأمر بالصراع في غزة، بدا واضحاً أننا كنا نركن القيم التي كنا نعتبرها مقدسة على الرف. قتل أكثر من 2200 فلسطيني و 67 إسرائيلي في الصراع الذي دارت رحاه في شهر يوليو/تموز من ذلك العام. والمأساة أن بريطانيا فشلت حتى في إيجاد ما تقوله تنديداً بأعمال إسرائيل غير المتكافئة.
كل المواقف التي تبنيتها دفاعا عن حقوق الإنسان كناشطة وكمحامية وكسياسية، تم التخلي عنها دونما سبب منطقي سوى التذرع بما يسمى "المصلحة الوطنية".
إسرائيل ليست استثناء
يعج العالم بالطغاة وبالزعماء المنتخبين، وبالأنظمة الوحشية وبالجيوش الفظيعة التي تنكل بمواطنيها، وإسرائيل ليست استثناء.
من أفغانستان إلى العراق، ومن ليبيا إلى سوريا، ومن السودان إلى سريلانكا، كان لنا موقف في مواجهة الزعماء والأنظمة الذين انتهكوا حقوق شعوبهم وأساءوا معاملتهم.
ردت بريطانيا محقة بالتنديد وبترتيب زيارات على مستوى عال لدعم ضحايا التنكيل، كما فعل دافيد كاميرون محقاً مع التاميل في سريلانكا في عام 2013، وقدمت الدعم لحركات الاستقلال، كما فعلنا في جنوب السودان، والنبذ والمقاطعة كما في حالة باكستان التي تم استبعادها من الكومنويلث أثناء الانقلابات العسكرية، والعقوبات المالية كتلك التي استمرت ما يزيد عن عقد ضد إيران، والغزو والحرب كما في أفغانستان والعراق، وتغيير النظام كما في ليبيا، وفي سوريا – وكما نردد مراراً وتكراراً "يجب أن يرحل الأسد، فهو جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل."
يبدو، في أقل تقدير، أننا نجد بعض الكلمات التي نعبر بها عن سخطنا، ولكن عندما يتعلق الأمر بغزة لا نجد حتى الكلمات التي بها نندد بالمذابح اليومية ضد المدنيين، بل نبدأ كل تصريح حكومي بدفاع قوي عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وأنا أوافق، فإسرائيل، مثلها مثل أي دولة ذات سيادة، من حقها أن تدافع عن نفسها.
ولكن بوصفها عضواً في المجتمع الدولي، تستحق بموجبه أن تبذل جهوداً كبيرة لتشارك في المناسبات الدولية الرياضية والاجتماعية، ينبغي على إسرائيل أن تبذل أيضاً جهوداً كبيرة للتصرف ضمن ضوابط القوانين والأعراف الإنسانية والدولية.
جرائم الحرب ضد غزة
أثناء الأزمة التي تفجرت في العام 2014، تم تقديم قرار في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في جنيف، تضمن تنديداً صريحاً ومطالبة بوقف العنف في الجانبين، كما دعا إلى إجراء عملية محاسبة في نهاية الحرب على أي جرائم حرب ارتكبت من قبل أي من الطرفين.
كان القرار منسجماً مع قيمنا الخاصة بالمحاسبة، والتي لا تسمح لأحد بالإفلات من المساءلة عن جرائم الحرب، بل وتدعم تحقيق العدالة الدولية. فنحن من الأعضاء المؤسسين لمحكمة الجنايات الدولية، وإحدى الدول الأساسية التي تتبرع لها، كما نؤمن بالدور المناط بالمنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة.
ومع ذلك امتنعنا عن التصويت على القرار، وأخفقنا في الالتزام بما وضعناه لأنفسنا من معايير.
نجح القرار، وبعد عام واحد خلص تقرير للأمم المتحدة إلى أن ثمة صدقية في المزاعم التي تقول بأن جرائم حرب ارتكبت في العام 2014 من قبل إسرائيل والجماعات المسلحة الفلسطينية.
وجاء فيه أن "الدمار والمعاناة الإنسانية في غزة غير مسبوقين وأن ذلك سيترك أثراً على الأجيال القادمة".
لم تتجاوب إسرائيل مع الطلبات المتكررة بتوفير معلومات ولا سمحت بدخول لجان التحقيق إلى إسرائيل والأراضي المحتلة. ومع ذلك قامت المفوضية بإجراء مقابلات وجهاً لوجه مع مائتين وثمانين شخصاً عبر السكايب أو وسائل الاتصال المرئي وأخذت بالاعتبار خمسمائة شهادة مكتوبة.
وخلصت المفوضية إلى أن حالة من الشعور بالحصانة من المساءلة والمحاسبة تقف وراء الانتهاكات التي يُزعم بأن القوات الإسرائيلية ارتكبتها في غزة والضفة الغربية، وطالبت إسرائيل بالإقلاع عن السلوك الذي أورثها سجلاً بائساً في مجال محاسبة من يرتكبون الانتهاكات.
كان التقرير متوازناً في استنتاجاته، حيث قال إن المحاسبة في الجانب الفلسطيني أيضاً غير كافية لدرجة تبعث على الأسى. إلا أننا بامتناعنا عن التصويت أخفقنا في التزامنا بمبدأ المحاسبة والمساءلة.
رأس المال السياسي
كان حجتنا على النحو التالي: نعلم أنه خطأ، ومقتل المدنيين شيء مؤسف، إلا أننا يتوجب علينا أن نبدو مؤيدين لإسرائيل وذلك لتوفير الثقة التي قد نحتاجها في يوم آخر عندما سنجد أنفسنا بحاجة إلى استخدام النفوذ المكتسب لحمل إسرائيل على تغيير موقفها بشأن قضايا مثل المستوطنات.
تبدو تلك الحجة معقولة وحكيمة من الناحية الدبلوماسية، ولكني ما أزال أنتظر رؤيتها تطبق عملياً.
من الناحية النظرية، قد يعتبر موقفاً صائباً عدم اتخاذنا لإجراء ما وعدم إصدارنا لتنديد صريح بحجة المحافظة على رأسمالنا السياسي مع الحكومة الإسرائيلية، والذي قد يتسنى لنا استخدامه في وقت لاحق دعماً لتحقيق السلام. أما من الناحية العملية فهو موقف ينم عن نفاق وعن غدر بالشعب الفلسطيني.
ما زلت أنتظر استخدام هذا الذي يسمى رأس المال السياسي الذي راكمناه عبر سنوات من الصمت إزاء الانتهاكات الإسرائيلية المتكررة للقوانين والأعراف والمراسيم الدولية. لم يصدر أي فعل تجاه سياسة إسرائيل في اعتقال الأطفال الفلسطينيين وفي الاعتقال دون محاكمات، ولا إزاء انتهاكات حقوق الإنسان والاستمرار في بناء المستوطنات.
بل لقد ساهم إخفاقنا في اتخاذ إجراء ما في توفير الوقت والحيز المطلوب لإيجاد الظروف سياسياً وفعلياً لتغيير كثير من الأمور على الأرض لدرجة أنه لم يعد ثمة فرصة أمام تحقيق حل الدولتين.
التاريخ يعيد نفسه
أعاد التاريخ نفسه نهاية هذا الأسبوع، حيث تصرفت الحكومة البريطانية بنفس الطريقة المخزية التي تصرفت بها في العام 2014. لقد خانت رئيسة الوزراء تريزا ماي قيمنا بنفس الطريقة التي خانها من قبل دافيد كاميرون.
لقد خذلنا العدالة تارة أخري، وتارة أخرى بعثنا برسالة مفادها أننا لا نرى أدنى تكافؤ بين حياة الإسرائيليين وحياة الفلسطينيين.
مات خمسة وعشرون فلسطينياً خلال اليومين الماضيين، بما في ذلك عدد من الأطفال. كما مات أيضاً أربعة إسرائيليين. ينبغي أن نحزن عليهم جميعاً، ويتوجب علينا التنديد بالعنف الذي يودي بحياة الأبرياء.
ما فتئت أندد بالعنف الذي يمارسه الطرفان.
ولكن في تصريحه المعلن، ندد وزير الخارجية جريمي هانت – والذي أعتبره رجلاً محترماً – بالهجمات التي شنت على إسرائيل ولم يندد بالهجمات التي شنت على غزة.
في عالم ما بعد بريكسيت، ينبغي على بريطانيا أن تصون ماركتها والتي ينبغي أن تشتمل على شعورنا بالنزاهة والإنصاف، والتزامنا بالعدالة وحقوق الإنسان، ونزعتنا لأن نرفع صوتنا تأييداً للمستضعفين.
لن نكون أبداً وسيطاً نزيهاً إذا كنا نتكلم فقط بطريقة تحمل المسؤولية عن العنف لطرف واحد وإذا ما وجهنا أصابع اللوم عن ارتكاب الخطأ لفريق دون آخر.
ما كان انعدام النزاهة يوماً ماركة نبيلة. لقد خذلنا أنفسنا.
طالما بقيت غزة مفصولة عن الضفة الغربية ومعزولة عن بقية العالم، فسوف تبقى محتلة، وإذا ما استمر الاحتلال، وإذا لم يكن ثمة وجود لعملية سلام، فلا مفر من أن ينفجر العنف.
وطالما أننا نخفق في التمييز بشكل واضح بين القوة التي تحتل والشعب الذي يعيش تحت نير الاحتلال، فسوف نخفق في فهم حقيقة الظروف التي نعلن عن رغبتنا في بناء السلام في أجوائها.
وطالما ظللنا نقول إننا ندعم حل الدولتين ولكن لا نفعل شيئاً لتحقيقه على أرض الواقع فنحن متواطئون فيما يمارس من عنف.
الكتابة على الجدار
تمثل سياستنا غدراً بالشعب الفلسطيني إذ نسمح بالمضي البطيء قدماً نحو إقامة "إسرائيل الكبرى".
خنق القدس الشرقية وبيت لحم، وما يحيط بهما من جدار يتشكل من مستوطنات ومن مناطق عسكرية تنتشر في معظم أرجاء الضفة الغربية، والفصل التام بين غزة والضفة الغربية، كل هذا يثبت بوضوح لكل زائر، كما حصل معي شخصياً، أن إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة بات مجرد حلم غير قابل للتحقق.
ولهذا السبب لا أشعر أبداً بالندم أنني استقلت من الحكومة بسبب غزة.
كانت الكتابة ماثلة على الجدار في العام 2014، فلا يوجد التزام بإنهاء الاحتلال وإعادة تعمير غزة. ولا توجد أي مساعي لوقف بناء المستوطنات، ولا استنكار لما يقع من انتهاكات لحقوق الإنسان. بل ولا توجد عملية سلام.
ولا وجود لوسطاء نزيهين.
دولة فلسطينية الآن
في العام 2014، جلست في الحكومة أراقب العنف وألح على القيام بعمل من الداخل. وكناطق باسم الحكومة داخل مجلس اللوردات، لم أكن على استعداد لأن يصبح اسمي مقترناً بهذا الإخفاق في صنع السياسة.
وخلال السنوات الخمس الماضية لم يصدر عن الحكومة شيء يدل على تغير في سياسة عدم الفعل هذه.
لا شيء لحل القضية، لا شيء لوقف إسرائيل عن تغيير الحقائق على الأرض، ولا شيء لضمان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة متلاحمة الأوصال، ولا شيء لوقف دورة العنف.
عندما كان وزيراً للخارجية، قال وليم هيغ إنه إذا لم يتحقق تقدم باتجاه السلام فلن يبقى أمامنا خيار سوى العودة إلى النظر في موضوع الاعتراف المتبادل بفلسطين. وقد حان أوان ذلك الآن.
إن رفض ذلك يعني نفي حق دولة فلسطين في الوجود، ومثل هذا النفي ينبغي أن يكون مرفوضاً بنفس القدر الذي يعتبر فيه نفي حق دولة إسرائيل في الوجود مرفوضاً.
وكلا النفيين ينبغي أن يقابلا بالتنديد الشديد. لم يعد مجدياً التحجج بأن مثل ذلك الاعتراف سيؤدي إلى الإضرار بعملية السلام، إذ لا وجود لأي عملية سلام.
لم يعد بإمكاننا التمسك بسياسة غير فعالة وغير مجدية على اعتبار أنها ورقة التين التي نستر بها عار إخفاقنا.
ترجمة خاصة بـ "عربي21" عن موقع ميدل إيست البريطاني