تشهد مواقع التواصل الاجتماعي جدلا قويا حول ما أُطلق عليه "إلحاد ما بعد الثورات" بين من يرى تنامي حالات الإلحاد في أوساط الشباب العربي بعد الثورات، وبين من يرى تضخيم تلك الحالات الفردية ورفعها إلى مصاف الظواهر الفكرية والاجتماعية.
ويشير باحثون إلى أن حالات الإلحاد في الوطن العربي موجودة قبل اندلاع شرارة الثورات العربية، فما الذي استجد في المشهد حتى تُخصص حلقات نقاشية، وتفرد كتابات مطولة لبحث ومناقشة "إلحاد ما بعد الثورات"؟
ووفقا للكاتب والباحث الفلسطيني محمد خير موسى الذي نشر سلسلة مقالات تحت العنوان ذاته، فإن ما أسماه "إلحاد الأزمة" هو أكثر أنواع "الإلحاد انتشارا وظهورا بين شباب بلاد الأزمات العاصفة التي تعرّضت – وما تزال – للاحتراق بنيران المستبدين ومن ساندهم من رعاة الثورات المضادة".
وعلل ذلك بقوله إن "المجازر والاعتقال والمطاردة والتهجير والتدمير وفقدان كل شيء فجر في الشباب أسئلة كبيرة متعلقة بأصل الإيمان بالله تعالى، ومن طبائع الأزمات المزلزلة أنها تفجر في الإنسان الأسئلة العميقة، وأسئلة القلق والجدوى".
"الخطاب الديني"
من جهته رأى الكاتب والمترجم الفلسطيني المهتم بموضوع الإلحاد، شريف محمد جابر أن "الإلحاد ظاهرة آخذة بالتصاعد منذ ما قبل الثورات، ولكن زيادة ظهورها بعد الثورات لا علاقة له بالثورات ذاتها، بل بما ارتبط بها من أزمات وانهيارات في البنى السياسية والمجتمعية والإنسانية في بلادنا".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "في ظل هذه الأزمات التي لها انعكاساتها الحادة على النفس تبدأ الانعطافات الفكرية بالظهور بحدة، فالظاهرة موجودة وإن كانت محدودة، وتحتاج منا إلى خطاب جديد يواجهها على جميع الأصعدة المختلفة".
وأرجع شريف أسباب الإلحاد "في ظل أزماتنا الراهنة إلى خيبة الأمل في الخطاب الديني وعدم كفايته، وتبدد أحلام التحرر وامتلاك إرادتنا في دول قوية".
وتابع: "يضاف إلى ذلك أنه واكب الثورات العربية وتداعياتها تفاعل كبير في مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما لم يكن موجودا بهذا الزخم سابقا، فالجميع الآن يريد طرح أفكاره ورؤيته وحلوله، وفي خضم ذلك كانت هناك أطروحات إلحادية ومعادية للدين أو مثيرة للشبهات".
وذكر شريف أنه "في ظل الأزمات ستجد هذه الأطروحات التي لم تكن متوفرة بهذا الزخم من ينساق إليها، وهو ما يستدعي التأكيد على دور طرح الشبهات المحوري، والذي كان قديما حبيس كتب المفكرين، فصار الآن ضمن الفضاء العام يُطرح بكثافة في مواقع التواصل، ويؤثر تحديدا على الشباب صغيري السن".
" مشكلة متشابكة "
بدوره رأى الباحث في الفكر الإسلامي، محمد الصياد أن "الإلحاد لم يزدد بسبب الثورات في ذاتها، بل ربما كانت الثورات عاملا من عوامل ظهوره ووضوحه، سيما أنها جاءت في مرحلة طفرة تكنولوجية وتواصلية لدى الشباب".
وواصل "فبرزت فئات شبابية منبهرة بالنموذج الحداثي الغربي، ربما مع قراءة قاصرة أو انتقائية لهذا النموذج، فكانت ردة فعلها على الدين نفسه، بالإضافة إلى فشل الإسلاميين في السلطة، وفشلهم في خلق نموذجهم الخاص، فأدى هذا إلى ردة فعل عند فئات شبابية محسوبة على الإسلاميين، فتبنى بعضهم العنف، وتبنى آخرون الإلحاد".
وإجابة عن سؤال "عربي21" حول أسباب ذلك التبني قال الباحث المصري الصياد: "لم يكن ذلك التبني عن مراجعات فكرية وسياسية ودينية عميقة، بقدر ما كان أقرب إلى الصدمة من الفشل والإخفاق".
وتابع: "لكن هناك معايير أخرى مهمة لا يمكن تجاهلها في هذا الصدد، مثل انفتاح الشباب على العالم عبر التقنيات الحديثة والسوشال ميديا، في نفس الوقت الذي لا يزال فيه الشيوخ ورجال الدين جامدين متشددين في غير مواضع التشدد، فلا تنتظر من الشباب أن يستمروا في هذه القوقعة، بل إنهم ارتأوا أنهم أنضج فكرا وأكثر ثقافة من رجال الدين، فأدى هذا إلى التمرد العنيف والشامل".
وأشار الصياد إلى أن "مشكلة الإلحاد متشابكة جدا بين ما هو ديني وما هو سياسي، وما هو اجتماعي، وإذا تحدثنا بصراحة فلا حل جذري لها، ولكنها مخففات ومهدئات، وحتى لا توجد بيئة لعمل هذه الأدوية المخففة للظاهرة، بل إن البيئة المواتية كلها، خاصة التشدد الديني، في صالح ظاهرة الإلحاد"، وفق وصفه.
"مؤسسات تعمل في الخفاء"
وفي السياق ذاته لفت الأكاديمي الشرعي السوري، الدكتور ثائر الحلاق إلى "ضرورة تحرير مصطلح الإلحاد أولا، فهو يحتمل أكثر من معنى، فالمعنى الراجح والشائع هو إنكار الله تعالى أو اتخاذ موقف سلبي من الدين بحيث يشكك في صلاحيته لقيادة الدنيا".
وأضاف: "وقد يُراد معنى آخر وهو سخط شباب اليوم على الخطاب الديني لدوره السلبي، فقد بات أدعياؤه عراة لا يسترهم شيء بعد أن وقف فريق منهم إلى جانب الطغاة منافحا ومدافعا امتثالا للأمر الشرعي "اسمعوا وأطيعوا"، فالنص صحيح لكن إسقاطه على الواقع في غاية البعد والوهن، وفريق آخر التزم الصمت، والتوقف هنا أسوأ المواقف في اللحظات التاريخية الحاسمة التي تتطلب موقفا شجاعا ومسؤولا".
وبحسب حديثه لـ"عربي21" يرى حلاق أن "المعنى الأول لا يشكل ظاهرة البتة، وأن محاولة تضخيمه والنفخ في أعداد هذه الشريحة قد يترك أثرا سيئا في المجتمعات الإسلامية حيث ستتقبل هذه الظاهرة مع الوقت كما تقبلت كثيرا من المفاهيم الغربية الغريبة عن مجتمعاتنا المحافظة".
وتابع: "والظاهرة تصدق على المعنى الثاني بلا شك؛ فموجات الحقد والكراهية ضد رجال الدين نلمسها في كل حين، ولا سيما بعد أن ترك معظمهم البلاد إلى دول أخرى وتفرغوا فيها لرعاية مصالحهم الشخصية الضيقة، وبناء استثماراتهم الخاصة، فليس سهلا أن تفقد الثقة فيمن كنت تعتقد فيه الكمال ثم يتحول ذلك الاعتقاد إلى سراب"، على حد وصفه.
وردا على سؤال حول حقيقة انتشار الإلحاد بين واقعية الحالة وتضخيمها أجاب حلاق: "أعتقد أن هناك مؤسسات تعمل في الخفاء، وتروج لتضخيم هذه المؤسسة، وصناع القرار في الغرب مرتاحون جدا لانتشار الإلحاد، وبعضهم لم يخف سروره بذلك"، مشددا على أنه "يتكلم عن بعض لا كل من يتكلم عن ذلك، فمن الإخوة من هو حسن النية، ويرى أنها ظاهرة لذلك يكتب من باب الدعوة إلى الله، وليس قلما مأجورا كغيره".
وختم حديثه بالقول إن "الثورات العربية ساهمت بشكل إيجابي في تمسك المسلمين بدينهم بحسن التوكل عليه، والإنابة إليه، وتقبل ما يحدث لهم بصبر واحتساب وتوكل، وهذا من آثار الثورات وثمارها الإيجابية التي لا ينبغي التغافل عنها بحال".
الأحزاب الإسلامية.. هل خدمت الثورات العربية أم خذلتها؟