في وقت مبكر من هذا الشهر، نظم صندوق الإغاثة الفلسطيني (إنتربال) حفل غداء في وسط مدينة لندن للاحتفال بكتاب يتحدث عن مرور خمسة وعشرين عاما على تأسيس المؤسسة.
ومعروف أن "إنتربال" مؤسسة خيرية بريطانية تقدم العون الإنساني والخدمات التعليمية والصحية وتعمل في مجال تنمية المجتمع الفلسطيني.
حضر الغداء ما يقرب من أربعين دبلوماسياً وسياسياً وعاملاً في مجال الإغاثة إضافة لآخرين. تكلم في اللقاء السير تيرنس إنغليش، جراح القلب الشهير، الذي تحدث بعاطفة جياشة حول إعادة بناء أطراف عدد كبير من الرجال الفلسطينيين الذين أصيبوا بنيران القناصة الإسرائيليين في ركبهم أثناء المشاركة في تظاهرات غزة على مدى العام المنصرم.
كان المتحدث الرئيسي هو سفير منظمة التحرير الفلسطينية الدكتور حسام زملط، والذي كان سفيراً للمنظمة في واشنطن قبل أن تبادر إدارة ترامب إلى إغلاق مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وإلغاء تأشيرته الدبلوماسية في سبتمبر/ أيلول الماضي.
كان يجلس إلى جواره الدكتور ألون لييل، الدبلوماسي الإسرائيلي السابق، الذي قال إن إسرائيل تفقد الدعم في الخارج في نفس الوقت الذي يكسب فيه اليمين الإسرائيلي، بزعامة رئيس الوزراء بنجامين نتنياهو، السلطة والشعبية في الداخل.
بالرغم من الصعوبات الهائلة
إلا أن سحابة من الكآبة ظللت المناسبة، حيث أن مؤسسة إنتربال تخوض معركة في ظروف بالغة الصعوبة للبقاء على قيد الحياة.
وذلك أنها تخضع لضغوط تمارسها عليها مجموعة تسمى "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل"، سعت خلال العام الماضي بكل قوة للضغط على المنظمات المالية لحملها على سحب الخدمات المصرفية أو خدمات تصريف التبرعات التي يستفيد منها إنتربال.
ونتيجة لذلك بدأ إنتربال يفقد القدرة على جمع التبرعات. ويذكر أن مجموعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" استهدفت كذلك منظمات أخرى من بينها "الحرب على العوز"، وهي جمعية خيرية بريطانية تعمل ضد الفقر، مقرها لندن أيضاً، ويدخل ضمن نشاطها تنظيم حملات لمناصرة حقوق الإنسان الفلسطيني ومطالبة بريطانيا بفرض حظر في الاتجاهين على بيع السلاح لإسرائيل.
يحظى إنتربال باحترام العديد من الخبراء المستقلين، وذلك لما يقدمه من خدمات في مجال الطب والتعليم والإغاثة الإنسانية في جزء من العالم غدت الحاجة فيه ماسة لمثل هذه الخدمات.
في نهاية حفل الغداء، ألقى المؤرخ الإسرائيلي الكبير آفي شليم كلمة قال فيها: "نقف حالياً عند منعطف في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث يواجه الفلسطينيون أزمة وجودية. وهم اليوم، أكثر من أي وقت مضى، بحاجة إلى كل الدعم الذي يمكنهم الحصول عليه، ومن هنا تنبع أهمية منظمات مثل إنتربال".
إلا أن جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" لا يتفقون معه في ذلك. فبالنسبة لهم الأمر بسيط، ويتمثل حسب رؤيتهم في أن إنتربال منظمة داعمة للإرهاب ينبغي أن تمنع من العمل.
من المفروغ منه أنه إذا كانت مؤسسة إنتربال فعلاً متورطة في الإرهاب، فينبغي أن تواجه تحقيقاً جنائياً. وإذا ما ثبتت بحقها تلك المزاعم، فيتوجب إغلاق إنتربال كما يتوجب توجيه تهم جنائية إلى المسؤولين الرئيسيين فيها بل وسجنهم.
ولكن من الأهمية بمكان الإقرار بأن السلطات البريطانية تعتبر إنتربال مؤسسة شرعية. أما حملة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" فتعتمد أساساً على الولايات المتحدة التي صنفت وزارة الخزانة فيها إنتربال منظمة إرهابية منذ عام 2003.
تنبع هذه المزاعم من تهم موجهة لإنتربال بأنه يدعم حماس، المنظمة الإسلامية الفلسطينية التي يصنفها كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة جماعة إرهابية. وبينما تنهج كندا وأستراليا على منوال أمريكا في تصنيف إنتربال منظمة إرهابية، إلا أن كثيراً من البلدان الأخرى والمنظمات الدولية لا تفعل ذلك.
مزاعم الارتباط بالإرهاب
قامت هيئة مراقبة الجمعيات الخيرية في بريطانيا بالتحقيق في أمر إنتربال بعدما صدر التصنيف بحقه في الولايات المتحدة وفي مناسبتين أخريين. وكانت الهيئة في كل مرة تعلن براءة الصندوق من جميع الادعاءات عليه بأنه ضالع في نشاطات غير قانونية.
أصرت الهيئة في التحقيق الثالث بأن يقوم إنتربال بمراجعة إجراءات التدقيق المعمول بها لديه وعمليات الرصد والمراقبة، وكذلك بقطع جميع الصلات بينه وبين مجموعة أخرى ارتابت الهيئة بأنها قد تكون على علاقة بحماس.
أكدت هيئة مراقبة الجمعيات الخيرية فيما بعد أن إنتربال انصاع لما طُلب منه ونفذه بحذافيره.
رفضت الحكومة البريطانية اتباع الولايات المتحدة وإسرائيل في اعتبار إنتربال كياناً إرهابياً. وكذا هو حال الأمم المتحدة. ويذكر أن إنتربال يساعد في تمويل وكالة غوث اللاجئين (الأونروا) التابعة للأمم المتحدة، والتي تقدم الدعم للاجئين الفلسطينيين في مختلف أنحاء الشرق الأوسط.
تمكن إنتربال، المرة تلو الأخرى، من إثبات بطلان التهم الموجهة ضده. وفي عام 2005، كسبت الجمعية الخيرية قضية تشهير ضد مجلس مندوبي اليهود البريطانيين الذي كان قد ندد بمؤسسة انتربال عبر موقعه على الإنترنيت معتبراً إياها منظمة إرهابية.
واضطرت صحيفة ذي جيروزاليم بوست إلى الاعتذار إلى إنتربال في عام 2006، بينما دفعت صحيفة ذي إكسبريس تعويضات للجمعية الخيرية في عام 2010 بعد أن ادعت زوراً وبهتاناً بأن الجمعية ترتبط بحركة حماس.
وخلال نهاية الأسبوع المنصرم، اعتذرت صحيفة ذي ديلي ميل لإنتربال بعد نشرها مقالاً في شهر أغسطس/ آب الماضي. وقالت الصحيفة في اعتذارها: "أكد لنا مجلس أمناء المؤسسة، وقد قبلنا ذلك منهم، بأنه لا إنتربال ولا أي من أمنائها، كان ضالعاً في الإرهاب أو مشاركاً في نشاط إرهابي من أي نوع. وبناء عليه، فإننا نعتذر للأمناء عن أي إساءة بدرت منا".
تشبه الادعاءات المذكورة آنفاً ما كان قد صدر عن وزارة الخزانة الأمريكية من موقف يصف إنتربال بأنه "الجمعية الخيرية الرئيسية التي تستخدم للتستر على المال المتدفق على حماس." وكان ذلك هو نفس الزعم الذي صدر عن "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" في بيانات أعلنوا من خلالها كيف تمكن إجراؤهم القانوني من حرمان إنتربال من الوصول إلى وسائل تلقي التبرعات.
الالتزام بالسلام
يشير نقاد إنتربال إلى حقيقة أن مؤسسها التقى مراراً وتكراراً بكبار الشخصيات في حماس. ولكن أنصار الجمعية الخيرية يشيرون إلى أن حماس هي الحكومة المنتخبة في غزة. ويستحيل أن تتمكن أي منظمة من العمل على المدى البعيد داخل تلك المنطقة دون التعامل مباشرة مع كبار الشخصيات في إدارتها.
عندما أجريت مقابلة مطلع هذا الشهر مع عضو الأمانة المؤسس عصام يوسف أخبرني بأن هيئة الرقابة على الجمعيات الخيرية في بريطانيا طالبت المسؤولين في السلطات الأمريكية بتقديم الدليل على مزاعمهم، ولكنهم لم يفعلوا.
وقال: "نحن منظمة نظيفة نلتزم بالسلام وبمساعدة الشعب الفلسطيني، ولكننا في نفس الوقت هدف سهل".
بالفعل، ليست هذه المزاعم بالأمر الجديد، ولطالما استمر إنتربال في القيام بعمله على الرغم منها.
أخبرني جهاد قنديل، المدير التنفيذي في إنتربال، إن الذي تغير هو التكتيكات التي تستخدم للنيل منهم. وقال: "يستخدم محامون بريطانيون من أجل إسرائيل التصنيفات الدولية لتهديدنا في المملكة المتحدة التي تمت فيها تبرئتنا عدة مرات، وهذا بمثابة إهانة لهيئة مراقبة الجمعيات الخيرية."
بناء على ذلك، قمت قبل أحد عشر يوماً بتوجيه رسالة إيميل إلى جوناثان تيرنر، المحامي الذي يترأس مجموعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل"، وقلت له إنني من المعجبين بعمل إنتربال، ووددت أن أفهم ما لديه من مخاوف، وحذرته في نفس الوقت من أنني قد أطرح بعض الأسئلة الحرجة.
لم يصلني رد. فقمت بإرسال إيميل آخر صباح يوم الثلاثاء الماضي الثالث والعشرين من إبريل. ولم يصلني رد. بادرت منذ ذلك الوقت إلى إرسال المزيد من رسائل الإيميل والرسائل النصية وتركت له رسائل صوتية على هاتفه النقال، واتصلت أسأل عن تيرنر في مكتب المحاماة الذي يعمل معه.
أسئلة بلا إجابات
ونظراً لعدم تمكني من الوصول إلى تيرنر عبر الهاتف، قمت يوم الأربعاء الرابع والعشرين من إبريل بتوجيه رسالة عبر الإيميل تضمنت قائمة من الأسئلة. ولكن لا رد. وفي نفس ذلك اليوم، بعثت بقائمة من الأسئلة المطبوعة إلى مكتب تيرنر في لندن. ولا رد.
أردت أن أعرف ما الدليل الذي يتوفر لدى مجموعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" ويثبت أن إنتربال ضالع في دعم الإرهاب، علماً بأن الحكومة البريطانية لا ترى أنه يدعم الإرهاب، وكذا هو موقف هيئة الرقابة على الجمعيات الخيرية في بريطانيا. هل يعتقد "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" أن هيئة الرقابة على الجمعيات الخيرية في بريطانيا لا تقوم بعملها حسب الأصول؟
أردت أن أعرف ماذا لدى "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" ليقولوه لأولئك المحتاجين من الفلسطينيين الذين سيفقدون الرعاية الطبية والخدمات التعليمية والمساعدة الإنسانية؟ وما الذي يمكن أن يقولوه للفلسطينيين الذين لم يولدوا بعد والذين سيحرمون من الاستفادة من مشاريع إنتربال التنموية في جزء من العالم الناس فيه أحوج ما يكونون إلى تلك المشاريع.
أردت أن أسأل لماذا تسعى جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" إلى إعاقة تمويل إنتربال لما يزيد عن ستة آلاف طفل ينحدرون من عائلات فقيرة، يتم تمويلهم عبر برنامج من الكفالات. كيف يرتبط تحقيق هذا الهدف بطبيعة عملها وبالأغراض التي من أجلها تأسست هذه الجماعة؟
تقول مؤسسة إنتربال إن السلطات الأمريكية لم تقدم دليلاً واحداً يؤيد مزاعمها بأن إنتربال كيان إرهابي. ولذلك وددت أن أسمع من جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" ردهم على ذلك الزعم.
أخبروني في إنتربال بأنه نتيجة للتحقيقات المتكررة في عملهم فقد غدت المؤسسة ملتزمة "بسياسات وإجراءات صارمة لضمان عدم انسياب أي من الأموال التي نقدمها في طريق غير شرعي."
رغبت في أن أسمع من جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" عما يتوفر لديهم من أدلة علها تدحض ما تقوله مؤسسة إنتربال.
أردت أن أسأل عما إذا كانت جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" تقر بأنه سيكون من تداعيات حملاتها ضد إنتربال مفاقمة الحالة الإنسانية المريعة التي يعيش فيها الفلسطينيون في الأردن ولبنان والضفة الغربية وبشكل خاص في غزة. وددت أن أعرف شعور تيرنر إزاء ذلك.
تركت رسالة صوتية أخبر فيها تيرنر بأنني لست بعبعاً. ووعدته بأنني أبذل قصارى جهدي للالتزام بالنزاهة والإنصاف والتعهد بعدم تحريف كلام من أتحدث معهم.
بل ومنحته وقتاً إضافياً حتى يعود إلي فيه. لابد أنني حاولت التواصل معه أكثر من عشر مرات. ولما نفذ صبري، اتهمت تيرنر في إحدى الرسائل الصوتية بأنه يتعمد التهرب مني. ومع ذلك لم يصلني رد واحد على أي من هذه الأسئلة.
نهاية إنتربال؟
مع ذلك، إذا كان تيرنر ومنظمته عازمين على المضي قدماً في حملتهم الممنهجة لتشويه سمعة إنتربال والسعي لوقف عمل مؤسسة إغاثية بريطانية شهيرة، فمن المؤكد أن عليهم الاستعداد لمواجهة المحاسبة والمساءلة.
في هذه الأثناء، لابد من الإقرار بأن حملة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" ضد إنتربال يبدو أنها فعالة جداً. فقد أعلنوا عن نجاحهم في إقناع عدد من مؤسسات الاتصالات والمؤسسات المصرفية العاملة في بريطانيا بسحب خدماتها التي كانت توفرها لإنتربال.
وبلغني أيضاً بأن جماعة "محامون بريطانيون من أجل إسرائيل" وجهوا رسالة إلى بنك الريان الذي تتعامل معه مؤسسة إنتربال طالبين منه إغلاق حساب المؤسسة الخيرية. ما من شكل في أن ذلك يضع كما من المصاعب الأخرى في طريق إنتربال.
يُعرف عن المسلمين شغفهم بالتبرع، ولا يكاد يوجد مكان في الأرض الناس فيه أحوج إلى الإغاثة من قطاع غزة.
بادرت مؤسسة إنتربال مؤخراً إلى نشر تقرير عن تاريخها احتفالاً بمرور ربع قرن على تأسيسها. ما من شك في أنه حكاية ملهمة لجمعية خيرية كان أول مبلغ تجمعه قبل ما يزيد عن عشرين عاماً هو مائتي جنيه إسترليني، جمعتها في المسجد المركزي الكائن في ريجنتس بارك.
واليوم، يساعد إنتربال من خلال أعماله المختلفة آلاف العائلات الفلسطينية واللاجئين.
غني عن القول أنه إذا ما ثبت تورط إنتربال في الإرهاب فينبغي أن يغلق فوراً. ولكن السلطات البريطانية لا يضيرها استمرار المؤسسة الخيرية في العمل داخل بريطانيا، حيث أعتقد أنها لعبت دوراً مهماً في تحويل التبرعات إلى مشاريع خيرية إنسانية.
لقد حان الوقت الذي ينال فيه إنتربال الدعم الذي يستحقه. سيكون يوماً حالكاً ذلك الذي نسمح فيه لمن يبغضون إنتربال بتعطيله ووقفه عن العمل.
ترجمة خاصة لـ"عربي21" عن موقع ميدل إيست آي البريطاني
غوانتانامو: علامة باقية على الهمجية التي مورست ضد المسلمين الأبرياء