مر شهر كامل تقريباً على إجراء الانتخابات البلدية التركية، وأعلنت النتائج النهائية والرسمية من قبل اللجنة العليا للانتخابات، إلا أن عملية الطعون المقدمة من الأحزاب المختلفة لم تنته تماماً، وخصوصاً في إسطنبول.
ذلك أنه بعد انتهاء المراحل الاعتيادية الثلاث للطعن في النتائج أمام اللجنة، لجأ حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية لما يسمى "التظلم الاستثنائي"، بطلب إعادة انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى، إضافة لمقاطعتي "مالتبة" بالنسبة للحركة القومية و"بويوك تكمشجة" بالنسبة للعدالة والتنمية، بدعوى حصول عمليات تلاعب وتزوير ممنهجة. هذا الطلب، اللاحق على إعلان النتائج النهائية والذي لم يمنع مباشرةَ أكرم إمام أوغلو من ممارسة مهامه رئيساً لبلدية إسطنبول الكبرى، لم تبت فيه اللجنة العليا للانتخابات بعد.
وُجه الكثير من العتب لحزب العدالة والتنمية بسبب إصراره على المضي قدماً في عملية الطعون حتى آخر لحظة، واعتبره البعض رفضاً منه للنتائج بسبب خسارته، رغم أنه حق دستوري له، ويجري في إطار المسار القانوني ويلتزم بمرجعية اللجنة العليا للانتخابات.
وُجه الكثير من العتب لحزب العدالة والتنمية بسبب إصراره على المضي قدماً في عملية الطعون حتى آخر لحظة، واعتبره البعض رفضاً منه للنتائج بسبب خسارته
في اعتقادي ثمة ثلاثة أسباب لهذا المسار الذي انتهجه "العدالة والتنمية":
الأول، محاولة جدية لتغيير النتيجة باعتبار أن الفارق في الأصوات بين المرشحَين لم يكن كبيراً، وقد قلصت طعون الحزب فعلاً الفارق إلى النصف تقريباً، لكنها لم تغير النتيجة.
الثاني، العمل على تخفيف حدة الصدمة من النتائج، إن كان على صعيد أنصار الحزب أو حتى على صعيد الأوضاع الاقتصادية في البلاد، من خلال مد الفترة الزمنية قبل إعلان النتائج إلى الحد الأقصى.
الثالث، محاولة "تبهيت" فوز المعارضة والتقليل من حدته وتأثيره قدر الإمكان، من خلال "عدم حسم" نتيجة إسطنبول سريعاً، باعتبارها الأهم والأكبر بين
البلديات.
وبغض النظر عن مدى قدرة الحزب على تحقيق هذه الأهداف، إلا أنه ما زال مصراً على استخدام كافة حقوقه القانونية حتى آخر الشوط، منتظراً قراراً نهائياً من لجنة الانتخابات. لكن السؤال الأهم هنا، إلى جانب ماهية قرار اللجنة، هو إذا ما كان قرار الإعادة في مصلحة الحزب في المقام الأول. وجوابي هو: ليس بالضرورة؛ لأن الأمر يتعدى نتيجة الانتخابات وإمكانية تبدلها.
إعادة الانتخابات ستفقد تركيا وحزب العدالة والتنمية شيئاً من الانطباعات الحسنة التي كسباها في هذه الانتخابات وإشادة مختلف الأطراف بها
ذلك أن إعادة الانتخابات ستفقد
تركيا وحزب العدالة والتنمية شيئاً من الانطباعات الحسنة التي كسباها في هذه الانتخابات وإشادة مختلف الأطراف بها، حتى ولو كانت إشادات مبنية على تراجع العدالة والتنمية فيها. كما أن صدور نتيجحة معاكسة للحالية في الإعادة قد يضعف الثقة باللجنة العليا للانتخابات والمسار الديمقراطي في البلاد بشكل عام، خصوصاً إذا ما اعترضت عليها المعارضة، وهو أمر متوقع.
ومن جهة أخرى، فإن التبدل المحتمل في نتيجة إسطنبول إن حصل، وعلى أهميته، لن يغير كثيراً من دلالات الانتخابات البلدية ودروسها وتأثيراتها، ولا من الانطباعات التي تولدت بعدها، من حيث تقدم المعارضة وتراجع العدالة والتنمية نسبياً.
الأهم، أن قرار إعادة الانتخابات قد يتسبب باعتراضات عالية السقف من المعارضة؛ التي كانت قد هددت ضمنياً في وقت سابق باللجوء للشارع، ما يثير التخوفات من سيناريو الفوضى، وهو آخر ما تحتاجه تركيا حالياً في ظل الأزمة الاقتصادية.
إعادة الانتخابات قد يتسبب باعتراضات عالية السقف من المعارضة؛ التي كانت قد هددت ضمنياً في وقت سابق باللجوء للشارع
وبالتأكيد، فإن قراراً كهذا
سيزيد من الضغوط الخارجية على
أردوغان والعدالة والتنمية، والتي تكاد تكون اختفت في هذه الانتخابات، بعكس معظم الاستحقاقات الانتخابية السابقة.
كل ذلك في ما يتعلق بحسابات واحتمالات سياسية، فماذا عن تأثير الإعادة على النتيجة؟
من الواضح أن العدالة والتنمية يراهن على أن إعادة انتخابات إسطنبول ستساعده على الحشد والتعبئة، وإقناع المترددين وتعديل رأي المتحفظين من أنصاره، خصوصاً في ظل تصريحات أردوغان وغيره من قيادات الحزب؛ بأنهم "
فهموا رسالة الناخب" وسيعملون على أساسها. ولعل الحزب يراهن على نموذج إعادة الانتخابات البرلمانية في 2015، حيث عاد وحصل على الأغلبية البرلمانية بعد حوالي خمسة أشهر من الانتخابات، حين خاف أنصاره من فوز المعارضة وعودة تركيا لما قبل العدالة والتنمية.
لكن نتيجة الإعادة إن حصلت ليست بالضرورة مضمونة للعدالة والتنمية، لسببين رئيسين:
الأول، أن توحد المعارضة وتصويتها المكثف لمرشح الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو سيزدادان بشكل ملحوظ في الإعادة، بعد أن رأت المعارضة أن الفوز بإسطنبول بات ممكناً، ولم تكن ترجيحاتها قبل الانتخابات تصب بهذه الاتجاه، على الأقل في أوساط الناخبين.
إعادة الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى (إن حصلت) ليست خياراً مضموناً بالنسبة للعدالة والتنمية، ولكنها مغامرة محفوفة بالمخاطر
الثاني، أن رأي الناخب وتصرفه يوم الاقتراع ليس مضموناً أبداً، ولا يتبع لقوانين رياضية بحتة، وإنما هو عملية معقدة يصعب التنبؤ بها. فالناخب، وخاصة أنصار العدالة والتنمية، سيقيّمون نتائج الانتخابات الاعتيادية، وتفاعل الأحزاب معها، وخطابها، والأهم ممارستها ما بعدها. وحيث أن هناك من سيقتنع بتصريحات أردوغان وقيادات الحزب بالتجاوب مع النتائج، هناك في المقابل من لن يقتنع بذلك، وسينتظر ليرى "عملياً" كيف سيتجاوب الحزب مع رسائل الصندوق. وبما أن البعض قد يرى في طلب إعادة الانتخابات رفضاً ضمنياً لهذه الرسائل المذكورة، فيمكن القول إن نتيجة الإعادة غير مضمونة بالنسبة للعدالة والتنمية.
وإذا كان الحزب يراهن على زيادة الحشد ورفع نسبة تصويته في حال الإعادة، فلربما حصل العكس تماماً وتراجعت نسبة المشاركة و/أو التصويت له، خصوصاً في ظل ما سبق تفصيله، وبعد
رسالة رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو الشهيرة، وعدم تفاعل الحزب معها علنياً حتى اللحظة على الأقل. وهو سيناريو سيكون أكثر ضرراً على الحزب من نتيجة الانتخابات الاعتيادية بكثير، وسيفاقم بالتأكيد تفاعلات رسالة داود أوغلو ومسار تأسيس حزب جدبد من قيادات سابقة في العدالة والتنمية.
في المحصلة، وبغض النظر عن قرار اللجنة العليا للانتخابات، فإن إعادة الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى (إن حصلت) ليست خياراً مضموناً بالنسبة للعدالة والتنمية، ولكنها مغامرة محفوفة بالمخاطر، وغير مضمونة النتائج في أحسن الأحوال.