حين نفكر في إقامة دولة ديمقراطية، دولة المؤسسات التي يقف الناس
فيها أمام القانون سواسية وتُحفظ فيها الحقوق وتُصان الحريات بدلا عن “الدولة
السلطة” أو “الدولة الشخص” فإن لذلك قيما وأخلاقا مستمرة منها ننطلق وإليها ننتهي،
ولا يمكن بأي حال أن ننطلق من نفس ممارسات “الدولة السلطة” التي رفضناها، لأننا
حينها سنصل حتما إلى نفس النتائج..
إن
أخطر ما نعاني منه سلطة وشعبا هو قصور ثقافتنا القانونية وعجزها عن توليد معنى
الالتزام الذي يتصاغر أمامه الأنا الشخصي فيتحول القانون إلى المرجعية أو الإطار
الذي نقف عنده جميعا بلا تحايل أو استغلال، حين يتحقق هذا يصبح من حقنا بل من
الواجب علينا أن نبحث كيف نُرقِّي القانون لكي يستجيب لمقتضيات مجتمعنا في مختلف
مجالات الحياة ..
إذا كنا نستحِلُّ الدَّوْس على القانون بأرجلنا لأنهم داسوا عليه
بأرجلهم، فهم أيضا سرقوا فلماذا لا نسرق، أم أننا نحتجُّ لأن فرصة السرقة لم تُتح
لنا؟ ليس المطلوب أن نفسد كما أفسدوا ولكم المطلوب أن نصلح ما أفسدوا.
حين
ترتبك بوصلتنا فتفقد صوابها، ستتحول النهايات إلى بدايات وتصبح النهايات سرابا
نحسبهُ ماء وما هو كذلك.. لا يمكن بحال أن تقيم دولة القانون بالدَّوس على أخلاقها
وتسفيه معالمها..
إن
أَلَمَ المعاناة وهدير المشاعر حين يتجسد واقعا يصلح لهدم ما هو قائم، لكن بناء
البديل لا يضمنه إلا العقل الهادئ والفعل المتجرد من كل ذاتية أو إيديولوجية قدر
المستطاع..
ويتداول
بعض المحللين مصطلح “الحل السياسي” ليميزوا به فكرة بحث الحلول خارج الإطار
الدستوري وهو مصطلح يوحي بأن الذين يتبنُّون “الحل في إطار الدستور” غير سياسيين
وأنهم إنما يهتمُّون بحرفية النص القانوني ولا يهتمون للوضع السياسي ولا للمخارج
السياسية التي قد لا توفرها النصوص القانونية، وهذا الطرح فيه مغالطة كبرى..
إن
الدستور في حد ذاته إنما هو ترتيب قانوني لوضعيات سياسية معينة، وكما أسلفت في بعض
ما كتبت هو “تقنين سياسي أو سياسة قانونية”، وبالتالي تناول الوصف السياسي في
مقابل الوصف الدستوري فيه مجانبة للصواب بل مغالطة واضحة، فحتى بحث الحل السياسي
إذا قبلنا الوصف جدلا إنما هو بحث عن كيفية تأطير الأزمة السياسية بنهاية قانونية،
الفرق الوحيد هو أن هذا التأطير ليس مرجعيته “الدستور القائم” وإنما مرجعيته فكر
وثقافة أولئك الذين يقررونه فهو تقنين جديد بمرجعية أو مرجعيات مختلفة وهذا البحث
يطرح إشكالية معقدة: هي أننا عندما لا نتبنى مرجعية الدستور القائم ـ على
علاَّتِهَا وقصورهاـ فكيف يمكن أن نوفق بين الرؤى والأفكار المختلفة بغير معيار
مرجح، وهو ما يلاحظ جليا في أطروحات أصحاب هذا النهج، إنهم يتفقون على التشخيص في
العموم ويختلفون في تفاصيل الحل، ما يؤجِّج النقاش ويطيل أمد الأزمة، فيصبح محفوفا
بمخاطر هذا التدافع، هذا بالذات ما دفع غيرهم لتبني “الحل في إطار الدستور”
كمرجعية تنال الحد الأدنى من الاتفاق، قد لا يكون أفضل الحلول ولكنه قطعا أسلمُها
وأضمنها كواق لنا من تناقضاتنا التي أخذت تطفو إلى سطع المجتمع والتي قد تجرّ
علينا الخراب، نعم يمكن أن ننتقل من خلال الآلية الدستورية إلى وضع جديد كما نريد.
هنا يجب أن يثور النقاش بعيدا عن صراع “الأناءات” ـ جمع أناـ فهو إذن
خيار سياسي بامتياز لا علاقة له بالحرفية القانونية أو الجمود النصي كما يريد
البعض أن يصفه، هؤلاء حين بحثهم غير المأمون التنازع وغير المحدد في الزمن والذي
سينتهي إلى ترتيبات قانونية هي في النهاية دستور خاص ولكن خارج شرعية الصندوق
ولذلك أقول: ليس هناك حل دستوري وحل سياسي فكل الحلول سياسية، ولكن هناك حلا في
إطار الدستور وحلا خارج إطار الدستور.
الحاصل
الآن، إجماع على حتمية التغيير الجذري في النظام أو للنظام، استجابة للمطلب الشعبي
المعبَّر عنه بمختلف الصيغ.
وقد
رشح في الساحة السياسية خياران من أجل الوصول إلى ذلك:
الأول: عبر
مرحلة انتقالية ومن خلال هيئات تنشأ وأشخاص يُعيَّنون بمعايير لم تتضح بعد..
الثاني: خيار
الوصول إلى ذلك من خلال مؤسسات دستورية مكتملة الشرعية الشعبية (منتخَبة)..
مناقشة
الخيار الأول، خيار المرحلة الانتقالية: وهو خيار ـ وإن لم يتفق
أصحابه على آلية واضحةـ ولكنه في العموم يقوم على استحداث هيأة رئاسية لقيادة هذه
المرحلة وحكومة توافقية ثم ندوة وطنية تُحدث التغييرات المطلوبة لنذهب بعد ذلك إلى
بناء مؤسسات الدولة وفق التصور الذي تصنعه المرحلة الانتقالية بهيئاتها وأشخاصها،
وهو استنساخ لتجربة 1994 التي أعقبت توقيف المسار الانتخابي والتي أوصلتنا إلى ما
نحن فيه الآن..
وبقطع
النظر عن نوايا المدافعين على هذا الخيار فإنه يُعاب بما يلي:
1 ـ فيه
تعطيل لأهم معيار في الديمقراطيات الحديثة من أجل التغيير وهو معيار صندوق
الاقتراع، فهو يتبنى معايير التوافق والإجماع والمصداقية وتمثيل الحساسيات.. وما
إلى ذلك وهي كلها معايير حمّالة غير منضبِطة لا يمكن التحقق منها مقابل معيار
صندوق الاقتراع الذي هو أسلم معيار وأدقه في التعبير مهما كانت عيوبه.
2 ـ هو
خيار يستبعد المشاركة المباشرة للشعب في تقرير خيارات التغيير المنشود، بل يعبِّر
عن عدم ثقة الداعين إليه في وعي الشعب وقدرته على فرض خياراته.
3 ـ يحمل
شبهة فرض الوصاية على الشعب وممارسة الأبويّة عليه وكأنه قاصر يحتاج إلى وصي،
زيادة على ما فيه من مناهضة لمفهوم الديمقراطية واحترام الخيارات الشعبية.
4 ـ يصنع مجالا خصبا لصراع التناقضات الفكرية والإيديولوجية بغير
ضابط وهو ما بدت معالمُه تظهر على واجهة الأحداث كحديث رئيسة حزب العمال عن
مدى الانتماء العربي للشعب الجزائري، ومناقشة بعض الجهات لمضمون المادة 2 من
الدستور والحديث عن الدولة الإسلامية والدولة العلمانية.. وما إلى ذلك من النقاشات
التي ستكون نتيجتها الحتمية تمديد المرحلة الانتقالية بلا ضابط ولا يُخفى ما لذلك
من مخاطر.
لا
يعني ذلك أن هذه النقاشات ممنوعة أبدا، ولكن يجب أن تحصل في ظل مؤسسات منتخَبة من
قبل الشعب تمثله تمثيلا حقيقيا يفرض من خلالها ما يشاء، بدل أن تقرر بدلا عنه
أقليات مُتنفِّذة مالكة لقوة المال والإعلام..
5 ـ إن
هيئات المرحلة الانتقالية وأشخاصها وأهدافها هي في حد ذاتها مشكلات من حيث معايير
بنائها وأهلية أشخاصها فضلا عن أهدافها، وسيكون من العسير جدا الاتفاق عليها في ظل
التجاذبات الحاصلة، فالشيطان يكمن في التفاصيل..
وهو
خيار أراده الرئيس بوتفليقة ليشرف على مرحلة انتقالية وعد من خلالها أنه سيؤسس
للجمهورية الجديدة.. بتعديل الدستور وبناء المؤسسات..
وفرنسا
هي الأخرى تريد لنا مرحلة انتقالية تحدَّث عنها مسئولوها، قد تشرف عليها من خلال
خُدّامها في الجزائر..
وبعض
المعارضة من أحزاب أو شخصيات تريد لنا هي الأخرى مرحلة انتقالية تشرف عليها طبعا..
قد
تختلف الأهداف ولكن آلية المرحلة الانتقالية أصبحت بقدرة قادر محل اتفاق بين هؤلاء..
أما
الخيار الثاني فهو يتبنى أولوية بناء المؤسسات الممثِّلة للشعب المعبِّرة عن
سيادته الحقيقية لتتكفل هذه المؤسسات بإحداث التغييرات التي يريدها الشعب بعد ذلك،
وهو خيار محاسنه هي الوقاية من مخاطر خيار المرحلة الانتقالية المجرَّب، فهو ينطلق
من ثقته في الشعب وإيمانه بسيادته التي يمارسها من خلال المؤسسات الدستورية التي
ينشئها:
ـ
أولويته الأولى هي سد الفراغ في رأس الدولة ـ رئاسة الجمهوريةـ وذلك باتخاذ
الترتيبات اللازمة التي تضمن أكبر قدر من الشفافية والنزاهة لينتخب الشعب رئيسه ـ
مانديلاّ الجزائرـ الذي يربطه به عقد التزام، من خلال الحملة الانتخابية، يتعهد
فيه بتحقيق مطلب الشعب في التغيير الحقيقي الذي يبدأ بعد تعيين حكومته بانتخاب
برلمان مؤقت كهيأة تأسيسية لصياغة الدستور الجديد للجمهورية يعيد التوازن بين
السلطات ويحقق استقلاليتها ويوزع الصلاحيات بعدالة بينها، ثم يعاد بناء مؤسسات
الدولة تدريجيا وفق معايير جديدة قوامها الكفاءة والوطنية والمصلحة العامة..
أما
الذين ينادون بتعديل الدستور قبل انتخاب الرئيس وخارج إطار الشرعية بدعوى الحد من
صلاحياته الملكية حتى لا يتحول إلى دكتاتور بعد انتخابه، فهم لا يثقون بوعي الشعب
ولا يقدِّرون عزيمته، إن الجماهير التي أسقطت الرئيس بوتفليقة قادرة على إسقاط أي
دكتاتور يأتي بعده.. أُصدِقوا هذه الجماهير واخدموها بإخلاص تُريكم العجب.
عن صحيفة الشروق الجزائرية