لا مرة واحدة ولا مرتين سمعناهم يقولون بحماسة الثوار أن أمن الجزائر
من أمن تونس، أو يرددون أن أمن تونس من أمن ليبيا والعكس بالعكس. لكن لا أحد من
الرسميين في تونس أو في الجزائر خرج الآن ليعلن أن قصف طرابلس والعدوان عليها هو
عدوان على كلا العاصمتين المغاربيتين. وربما كانت حجتهم في ذلك هو أن لديهم من
الهموم والمشاكل الداخلية ما تنوء بحمله الجبال، أو لعلهم فضّلوا التريث كعادتهم،
حتى يروا إلى أي جهة ستميل الكفة، وكيف ستسير الأحداث، ثم يجازفوا بعدها بإطلاق
العنان للكلام ولعقد الاجتماعات التشاورية في ما بينهم، رغم أنهم لم يقصروا بعد في
إصدار تلك البيانات التي تدعو لحقن الدماء ووقف إطلاق النار.
لكن
هل أنهم صدقوا بالفعل ما قاله المشير الليبي المتقاعد من أنه كان يحارب الإرهاب لا
غير؟ وهل كانوا سيصدقون أيضا ما قد يقوله المتحدث الرسمي باسمه من أن الصواريخ
والقذائف التي أطلقها كانت دقيقة جدا وذكية هذه المرة، وفرقت بين المدني والعسكري،
وتفادت النساء والعجائز والأطفال والرضع، ولم تصب أحدا غير من يوصمون بالمتشددين
المنتسبين لتلك المجموعات الموصوفة بالإرهابية، التي أعاقت تقدمه نحو طرابلس؟ وهل
كانت المجنزرات والقنابل المصرية والإماراتية والطائرات الفرنسية المسيرة عن بعد،
التي قصفت ومازالت العاصمة الليبية وتحصد الأرواح بالجملة، في تلاقح فريد بين
الخزي والعار العربي، والمكر والجشع الغربي تعني شيئا في نظرهم أو تجعلهم يستشعرون
الخطر ويدركون حقا بأنهم قد يكونون المعنيين بالرسالة أيضا؟ أن شعوبهم التي لم تجد
الوقت ولا الظرف مناسبا لتتظاهر ضد ما يجري في طرابلس، قد لا تختلف كثيرا عنهم.
فبعض التونسيين والجزائريين الذين شعروا بالأسى والمرارة لما لحق جيرانهم، مازالوا
يعتقدون أنهم بعيدون نسبيا عن مرمى النار في ليبيا، وانهم في مأمن مما يجري وراء
حدودهم منذ الرابع من الشهر الجاري، تاريخ إعلان الجنرال المتقاعد عن بدء هجومه
الضاري على العاصمة طرابلس، وكأن الأمر لا يخصهم أو يعنيهم في شيء، أو أنه في أقصى
الأحوال لن يؤثر عليهم لا على المدى القريب ولا البعيد، لأنه لا يعدو أن يكون مجرد
صراع قبلي محدود، أو تصفية حسابات ليبية ليبية ستنتهي بالأخير بتغلب فصيل على آخر.
ولكن
الأطراف الدولية والإقليمية التي حركت بيادقها في هذا الوقت لم تفعل ذلك لمجرد
الرغبة في تغيير موازين القوى في ليبيا وحدها، بل كانت ترمي بلا شك لهدف أكبر
وأعظم، وهو إعادة وضع اليد على كامل المغرب الكبير، وإعادة تشكيله من جديد،
واحتواء النفس التحرري الصاعد فيه، والسيطرة عليه وتوجيهه حتى يخدم بالأساس
مصالحها وأغراضها قبل أي شيء آخر. فلم يكن ما حصل في الجزائر منذ شهرين بالنسبة
لها بالأمر البسيط والهين، مثلما لن يكون استكمال حلقات المسار الانتقالي في تونس
بتنظيم انتخابات رئاسية وتشريعية جديدة أواخر العام الجاري في نظرها حدثا عابرا
أيضا. ولأجل ذلك لم تحكم الصدفة وحدها بلم الشامي على المغربي مثلما يقال وتوحد كل
تلك القوى من الشرق والغرب، ولو من وراء الستار، على موقف واحد وهو دعم العسكري
المتمرد، ولو كان ذلك يعني أن تناقض نفسها بنفسها، وتلقي عرض الحائط ببياناتها
ومواقفها، كاسرة بنزق أعمى تلك الشرعية الدولية التي لطالما تبجحت بها. ففرنسا
التي نفت باستمرار أن لديها «خطة خفية» لإيصال حفتر إلى دفة السلطة، وأكدت في اكثر
من مناسبة على أنها» لن تعترف بأي شرعية» له في حال ما اذا تمكن من السيطرة على
طرابلس بالقوة، كانت واحدة من اكبر المعنيين بما يجري على مرمى حجر من العاصمة
الليبية في جارتيها الغربيتين تونس والجزائر.
وحتى
الرئيس الأمريكي نفسه الذي قيل إن مكالمته الهاتفية الأخيرة للجنرال المتقاعد كانت
بمثابة الضوء الأخضر له ليسيح في الأرض، ويفعل في الحرث والنسل ما يحلو له، ما دام
انه يملك معه «رؤية مشتركة لمستقبل ليبيا» ويقوم بعمل جيد في «مكافحة الإرهاب»
و»ضمان أمن الموارد النفطية الليبية» كان يدرك جيدا أن تلك الرؤية المشتركة لن تقف
فقط عند حد طرابلس، أو عند حراسة آبار النفط، وبقاء النصيب الأكبر من ثروات البلد
تحت السيطرة الأمريكية. لقد كان يعلم جيدا مثلما كان ماكرون يدرك بدوره أيضا أن
الجائزة الكبرى التي تنتظرهم بعد استواء الطبخة في ليبيا هي تقاسم الكعكة من جديد،
واستمرار التحكم في موارد وثروات كل المغرب الكبير، وإبقاء طموحات وتطلعات شعوبها
للتحرر والانعتاق والديمقراطية، تحت نطاق السيطرة،
وفي الحدود التي لا تضر بمصالحهم أو تمس بأدوارهم ومواقعهم المعروفة.
والرجلان كانا يعلمان أيضا مثلما يعرف باقي الشركاء الآخرين في دعم حفتر كالرئيس
الروسي بوتين والجنرال المصري السيسي وولي العهد الإماراتي، أن الحل العسكري الذي
يقفون وراءه لن يحسم الأمور على المدى المتوسط والبعيد في ليبيا وسيشكل بالمقابل
التهديد الدائم والأكبر للتجربتين التونسية والجزائرية، التي لا ينظرون لهما
بارتياح شديد، ويرونهما بمثابة التهديد الجدي في حال ما لم تتم السيطرة عليهما
والتحكم في مسارهما. ولكن ما الذي كان مطلوبا من التونسيين والجزائريين فعله؟ هل
كان عليهم الزج مثلا بقواتهم في ليبيا لمساندة الشرعية فيها؟ لم يقل أحد انهم
كانوا مدعوين لفعل شيء من ذلك. كما أنه لم يكن منتظرا منهم بالمقابل أيضا أن
يديروا ظهورهم بالكامل وينتظروا الحسم الخارجي لمعركة تدور على حدودهم. فقد كانوا
قادرين على القيام بخطوات صغيرة. فبعد أن بان للعالم كيف انحاز نظام السيسي بقوة
لحفتر، وخرق الاتفاق الثلاثي الذي وقعته تونس والجزائر ومصر لدعم حل سياسي في
ليبيا، ألم يكن بمقدور التونسيين والجزائريين أن يعلنوا احتجاجهم ويعلقوا تلك
الاجتماعات الثلاثية التي لم يعد من وراءها طائل؟ وهل كان استمرارهم في غض الطرف
عن تدخلات الإمارات وفرنسا بدرجة أولى هو الحل الأسلم والأفضل؟
قد
يقول البعض إن الأمر ليس بتلك البساطة، وإن الظرف الصعب والدقيق الذي تمر به
الجزائر وتونس هو الذي يجعلهما منشغلتين بترتيب وضعهما الداخلي أكثر من أي شيء آخر.
ولكن هل يعتقد أحد في البلدين انه سيكون بالإمكان أن ينجح انتقال ديمقراطي فيهما،
في ظل وجود جنرال في الجوار لم يخف في السابق تهديداته للجزائر بدعوى أطماعها
التوسعية، وعداءه الشديد لتونس لأنها لم ترسل لليبيا سوى فيالق الإرهابيين، بحسب
ادعاءاته.
إن
الأمر لن يتعلق بالتأكيد بمجرد مغامرة عسكرية تبدو الآن مستحيلة، ولكن بالتقويض
الداخلي للتجربتين. فأعداء الديمقراطية في ليبيا قد لا يختلفون كثيرا عن أعدائها
في تونس والجزائر، والأطراف الخارجية التي تتربص بهما هي نفسها تقريبا. ولأجل ذلك
فان تأمين الجبهة الداخلية فيهما يبدو الآن عاجلا وملحا، مثلما أن حمايتهما من
لوثة التدخلات الخارجية ستكون ضرورية، لكن ليس بالاستمرار في ترديد شعار: أمن
ليبيا من أمن تونس والجزائر والتنكر له.
عن صحيفة القدس العربي