لم تعد أزمة اليسار التونسي تخفى عن أي كان، بمن في ذلك أبناء هذا التيار الأيديولوجي العريق. فالأغلبية من هؤلاء هجروا الأحزاب والتنظيمات التي تنطق باسم اليسار لأسباب متعددة، إذ لكل واحد منهم قصة انتهت به إلى أن يصبح فردا يسبح خارج الأطر، رغم أن معظم هؤلاء لا يزالون ينتظرون اللحظة التي يغمضون فيها عيونهم ثم يفتحونها فيجدون اليسار قد توحد وتخلّص من انقساماته التي لا تنتهي.. إنه حلم أشبه بالوهم.
أنهى مؤخرا أحد فصائل هذا اليسار مؤتمره التأسيسي، حيث قام حزب القطب بـ"تحيين خطه السياسي وحسم في خيارات الحزب بخصوص الاستحقاقات السياسية والانتخابية القادمة، وكذلك انتخاب هياكله المركزية".
في البداية كان الحزب الشيوعي التونسي اليافطة الكبرى لليسار الماركسي، لكن بعد سلسلة من المواقف الخاطئة والأخطاء ذات الحجم الثقيل، تراجع الحزب ودخل في سلسلة من الأزمات والانقسامات. وعاد الأمل مرة أخرى عبر ما سمي باليسار الجديد، لكن مع النزوع نحو الراديكالية والارتباط بتجارب كثيرة من خارج الوطني، والانغماس المرضي في الخلافات الأيديولوجية، وجد اليسار نفسه مقسما وغير قادر على الفعل.
اعترف بأن الجبهة "لا يمكن أن تتواصل على مثل هذه المنهجية في العمل"، وأنه "بعد سبع سنوات من تأسيس الجبهة الشعبية، يجب التفكير في تغيير آليات العمل صلبها
أكد المنسق العام لحزب "القطب" في افتتاح المؤتمر؛ أن "وضع اليسار التونسي في أسوأ حالاته". وبما أن حزبه يعتبر من ضمن مكونات الجبهة الشعبية التي تجمع ستة أحزاب متفاوتة في الأهمية والحجم، فقد اعترف بأن الجبهة "لا يمكن أن تتواصل على مثل هذه المنهجية في العمل"، وأنه "بعد سبع سنوات من تأسيس الجبهة الشعبية، يجب التفكير في تغيير آليات العمل صلبها، وأنها ليست حكرا أو ملكا لأمنائها العامين، وإنما هي ملك لكل التونسيين المؤمنين بالخط الحداثي التقدمي". ولاحظ أن استمرار وحدة الجبهة الشعبية يعتبر بمثابة "المعجزة إلى حد الآن"، ولوح بانسحاب حزبه إذا لم تغير الجبهة اختياراتها وأولوياتها.
من حقه أن يعتبر استمرار الجبهة "معجزة" لأنه يعلم، وكثيرون هم الذين يعرفون حجم التناقضات التي تشقها طولا وعرضا. فهي بقدر صوتها المرتفع، تبدو هشة ومتنافرة بين مختلف مكوناتها. لقد سبق لرياض بن فضل أن أشار إلى "وجود نوعين من الفكر الاستبدادي داخل الجبهة الشعبية". صرح بذلك عندما قامت الجبهة بتجميد عضويته بسبب مشاركته في اجتماع جمعه بأحد قادة حركة النهضة (علي العريض، المتهم من قبل الجبهة بأنه متورط في عملية اغتيال شكري بلعيد زعيم حزب الوطنيين الديمقراطيين الموحد).
اندلعت معركة كلامية كادت أن تفجر الجبهة، رغم أن هذا الخلاف لا طائل من ورائه، إذ لا أحد منهما يملك ولو قدرا بسيطا من الحظ للفوز في هذا السباق الصعب
أمام حالة التشتت التي يعاني منها اليسار التونسي، نجحت الجبهة الشعبية في البقاء كرقم سياسي احتجاجي داخل البرلمان وخارجه، إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الأزمة الهيكلية المتفاقمة يوما بعد يوم. فأزمة الثقة متواصلة، والصراع بين "الرموز" لم يتوقف. ففي الأسابيع القليلة الماضية، أعلن أحد قادة "الوطنيين الديمقراطيين" الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة باسم الجبهة، وهو ما أثار ردود فعل قوية من بقية المكونات التي تمسكت بترشيح "حمة الهمامي"، الناطق باسم "حزب العمال"، وهكذا اندلعت معركة كلامية كادت أن تفجر الجبهة، رغم أن هذا الخلاف لا طائل من ورائه، إذ لا أحد منهما يملك ولو قدرا بسيطا من الحظ للفوز في هذا السباق الصعب.
يخوض اليسار حربا شعواء ضد حركة النهضة باعتبارها "الخصم اللدود". فهي عند عموم اليساريين تمثل "الشر المطلق"، وبالتالي يعتبر القضاء عليها أو إخراجها من الحكم أحد الأسباب الرئيسية التي توحد كل فصائله افتراضيا. لكن الوقائع تثبت أنه رغم الجهود التي تبذل لتحقيق هذا الهدف المعلن، فإن حركة النهضة لا تزال تمثل الرقم الصعب في تونس. فهي تتصدر استطلاعات الرأي، وتحافظ في الآن نفسه على وحدتها الداخلية وعلى قاعدتها الانتخابية، وهو ما جعل رياض بن فضل يعترف بأن "النهضة هي القوة السياسية الأولى في البلاد، وعديد الأحزاب تؤيدها في مواقفها من أجل فرصة التحالف معها"، مضيفا: "النهضة واقع لا يمكن زعزعته".
الوقائع تثبت أنه رغم الجهود التي تبذل لتحقيق هذا الهدف المعلن، فإن حركة النهضة لا تزال تمثل الرقم الصعب في تونس. فهي تتصدر استطلاعات الرأي
المعضلة الأخرى التي عجز اليسار عن تفكيكها تتعلق بمدى استعداده للمشاركة في السلطة. وهذا خلاف تاريخي لا يزال متواصلا حتى بعد الثورة، وارتفاع سقف الحريات عاليا. لقد عجزت قوى اليسار عن التوحد، أيضا عجزت عن تغيير موازين القوى السياسية والحزبية. وعندما تُعرض عليها صيغة المشاركة في حكومة ائتلافية، تتصاعد الاعتراضات، ويغلب الرافضون للمشاركة في الحكم مع آخرين يختلفون معهم في
الأيديولوجيا )النهضة تحديدا،( أو يتناقضون معهم في الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية، أي بقية الأحزاب المهمة. وبناء عليه، هناك أطراف (من بينها حزب القطب) تدعو اليسار إلى أن "يرتقي الى قوة سياسية تلبي ضرورة التداول على السلطة"، وتخشى أن يكون اليسار التونسي قد "تأقلم مع وضع المعارض الدائم"، وتحاول جره إلى القبول بقاعدة "الانخراط اللامشروط في اللعبة الديمقراطية وقوانينها".
هل سيحصل ذلك قريبا؟ الاحتمال لا يزال ضعيفا.