"عاش أدباء ومفكرو فرنسا بعيدين عن الممارسة، ولم يحدث أن خففت أي تجربة من سجيتهم، فلم تكن لديهم فكرة عن الأخطار التي ستتولد من الثورة، فلم يتوقعوا تلك الأخطار، لأن الغياب الكامل لكل حرية سياسية أدى إلى أن يكون عالم المصالح والأعمال بالنسبة لهم ليس فقط عالما مجهولا، بل عالما خفيا أصلا".
هذه كلمات للمفكر الفرنسي العريق إلكسي دي توكفيل ضمن كتابه "النظام القديم والثورة الفرنسية"، الذي حاول فيه إبراز المفارقات داخل المجتمع الفرنسي ثم المفارقات بين المجتمعين الفرنسي والإنكليزي.
معارضة ضعيفة مقابل نظام استبدادي
ربما تكون كلمات توكفيل تمثيلا دقيقا للواقع السوري خلال الثورة، فالمعارضة السياسية والنخب الفكرية لم تعايش ـ نتيجة انعدام ممارسة الحرية واختباراتها السياسية والاجتماعية ـ عالم المصالح السياسية / الاجتماعية، فجاء خطابها خال من أي براغماتية لصالح تعال في المفردات حال دون حصول تلاقح بين الخطاب السياسي وبين الواقع الممكن.
نتيجة تضخيمه مفاهيم السيادة والوطنية والقومية والإمبريالية ضمن تكتيك سياسي هدفه ترويض الوعي بما ينسجم مع مصالحه، أصبح النظام أسيرا لهذه المفاهيم،
بالمقابل، بقي النظام بفعل سنوات طويلة من الممارسة الاستبدادية وسمحت له سنوات الثورة أن ينتقل من مرحلة السيطرة إلى مرحلة الاستلاب، فما الشعب بنظره سوى رعية أو دهماء غير مهيئين لدخول عالم السياسة، فهم في حالة الطبيعة الفطرية المتخيلة حسب فلاسفة العقد الاجتماعي، وما أن تضعف قبضته الأمنية سيصبح المجتمع في حالة "الكل في حرب ضد الكل" وفق الصيغة الهوبسية.
أدوات لترويض الوعي
ونتيجة تضخيمه مفاهيم السيادة والوطنية والقومية والإمبريالية ضمن تكتيك سياسي هدفه ترويض الوعي بما ينسجم مع مصالحه، أصبح النظام أسيرا لهذه المفاهيم، وكان أثر ذلك واضحا ليس في اضمحلال وضعف المفاهيم الأخرى، مثل الحرية المدنية والديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة فحسب، بل على مستوى الوعي الذاتي في أدواره السياسية والاجتماعية.
وهكذا نشأ مع مرور الزمن تضخيم للذات، كون النظام السوري هو من حمل لواء الدفاع عن الكينونة السياسية العربية وفق اعتقادهم، وهو من جلب الأمن والاستقرار إلى البلاد بعد عقود من الانقلابات والفوضى السياسية والعسكرية.
وهذان الهدفان من الأهمية بمكان أن يضحى لأجلهما النظام بالحريات والقانون والعدالة والمنظومة المؤسساتية، وأصبحت أية محاولة من المواطنين لتجاوز هذا الواقع الذي نشأ مع وصول البعث إلى سدة الحكم، أن يعدوا مجرد مؤامرة كونية، والمؤامرة بهذا المعنى ليست سوى إعلاء وهمي للذات كما قال الباحث المصري يوسف زيدان.
انزلاق غير مدروس
كلمات توكفيل لا تصح فقط على النظام والمعارضة، بل أيضا على الشعب السوري، فغياب عالم الأعمال، جعلهم عاجزين عن رؤية مصالحهم العميقة، فانحدر جزء من الشعب وراء السلاح كأداة للتحرر الداخلي دون أدراك لمخاطر هذا التحول ـ مع قناعتنا أن النظام بسبب عنفه الشديد هو الذي دفع المعارضة للتسلح ـ ودون إدراك لمصالحهم الحقيقية.
م تستوعب القواعد الشعبية العلوية معاني الحريات المدنية والسياسية، فهذه المفاهيم بنظرها مجرد ترف فكري أو أدوات بيد الخارج للقضاء على "قلب العروبة النابض".
الأمر ذاته ينطبق على قواعد النظام الشعبية، فالعلويون تماهوا تماهيا شبه تام مع النظام، ليس لارتباطات اقتصادية فحسب، بل أيضا وهذا هو الأهم لارتباطات سياسية، عند اللحظة التي انتقلت فيها الطائفة من طائفة اجتماعية مغلقة إلى طائفة سياسية، انعكس ذلك مباشرة في وعيها، ونشأت أنا جمعية متضخمة، تقطع مع التاريخ الغابر، وترفض استذكاره.
ونتيجة تاريخهم الاجتماعي المغلق أولا، ولعدم وجود إرث مديني يحمل سمات ليبرالية كما حصل للنخبة المدينية في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي في دمشق وحلب وحمص ثانيا، لم تستوعب القواعد الشعبية العلوية معاني الحريات المدنية والسياسية، فهذه المفاهيم بنظرها مجرد ترف فكري أو أدوات بيد الخارج للقضاء على "قلب العروبة النابض".
أما القواعد الشعبية للنظام من السنة، فانقسموا بين فئتين، فئة غنية ليس لها علاقة بتاتا بالبرجوازية التي شهدتها البلاد بعد مرحلة الاستقلال، وكانت حاملا للأفكار السياسية والمعان الإنسانية، إنما هي طبقة مبنية على فكرة التشبيح الاقتصادي مع ما يتطلبه ذلك من ولاء سياسي حولهم إلى قطيع اقتصادي ساهموا مساهمة كبيرة في عدم نشوء طبقة برجوازية تاريخية تحمل هموم المجتمع وتتقدمه في تحقيق المطالب الكبرى، وهكذا أصبحت برجوازية دمشق وحلب مشوهتين كتشوه مدينتيهما اللتين تفتقران لأبسط مقومات المدن الحديثة.
أما الفئة الثانية فكانت من الطبقات الفقيرة والمتوسطة إلى حد ما، وهؤلاء تحولوا إلى قطيع ليس لهم هدف سوى المأكل والمشرب.
بقيت الأقليات الأخرى، خصوصا المسيحيين والدروز، الفئة الأولى كانت ملكية أكثر من الملك ذاته، فألبست نفسها خطابا تشبيحيا لا يتحمله الضمير، فيما نأت الفئة الثانية بنفسها، تحت عنوان مصلحة الطائفة هي الأولى، وتعكس كلا الحالتين ضعف الحالة الوطنية لدى الوعي الفردي والجمعي للطائفتين، فقد ظلتا محكومتين بالبنى العضوية ما قبل الحديثة.
كاتب وإعلامي سوري
إسرائيل… الانتخابات التاسعة منذ أوسلو
وفاء الأسد.. من ساعة كوهين إلى رفات بوميل