فشلت جميع الدول العربية في الصعود إلى الدرجات العليا من سُلَّم كانْترِل، الذي ظلت تستخدمه "شبكة حلول التنمية المستدامة"، منذ عام 2011، لقياس مدى سعادة شعوب الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، وتقصي مدى إحساس تلك الشعوب بالرضا عن أحوالهم الاقتصادية والمعيشية والنفسية، وما إلى ذلك من أمور تعطي الإنسان الإحساس بالسعادة، ويكون ذلك بإجراء استطلاعات رأي على عينات عشوائية من الناس في كل دولة، حيث يُطالَب كل شخص يُستطلَع رأيه بمنح نفسه درجة ما بين صفر وعشرة ليوضح مدى إحساسه بالرضا والسعادة.
ليس مؤامرة
ولا يمكن اتهام تقرير السعادة بأنه مطبوخ من قبل دول الاستكبار، فقط لأن العرب مستبعدون من المراكز المتقدمة في قائمة الدول التي يحس مواطنوها بالرضا وراحة البال وحسن الفأل، لأن من أعطى الدول العربية مراكز متأخرة في سلم كانترل هم المواطنون العرب أنفسهم.
من عجائب ما جاء في تقرير السعادة الدولي أنه يفيد بأن الفلسطينيين والصوماليين أكثر سعادة من المصريين والتونسيين والعراقيين والسودانيين
النصف الشمالي أكثر سعادة
ولكن من يلقي نظرة على قائمة الدول السعيدة، ويرى كيف أن دول أوروبا، وشمال أوروبا على وجه التحديد هي التي تتصدر القائمة، قد يتهم الجغرافيا بالتحامل على بقية الشعوب، خاصة وقد ثبت بالعين والنظر والسمع والعقل أن أهل النصف الشمالي في الكرة الأرضية أكثر رفاهية وثراء من أهل النصف الجنوبي.
ولكن وبالمقابل أليست هناك دول عربية أكثر ثراء من فنلندا والنرويج والسويد وسويسرا، وتنعم شعوبها بالرفاه المادي؟ أرمي من وراء هذا التساؤل القول بأن الاستقصاء الذي بُنِي التقرير عليه يؤكد أن الكاش لا يحسم النقاش في مجال مؤشرات السعادة، ليس لأن مقولة إن السعادة لا تشترى بالمال سليمة تماما (وقطعا فالسعادة لا تُشتَرى بالفقر)، ولكن لأنك كونك ثريا تستطيع ان تتصرف في أموالك كما تشاء، لا يكفل لك حق التصرف في معظم شؤون حياتك كما تشاء، حتى لو كان ذلك التصرف لا يتعدى على شؤون الآخرين، أو لا يخرق القوانين (ما عدا قوانين أمن الدولة التي تسلب من المواطن العربي الإحساس بالأمن والأمان).
الكرامة أصل السعادة
وما يبرئ الجغرافيا تماما من شبهة التحامل على العرب، هو أن استراليا ونيوزيلندا تقعان ـ مثل الدول العربية ـ في نصف الكرة الجنوبي، بعيدا جدا عن أوروبا، ومع ذلك فشعبا البلدين يحسان بالرضا عن أحوالهما، بل يفيد التقرير بأن الاستراليين والنيوزيلنديين أكثر إحساسا بالسعادة من الشعب الأمريكي (شغلت الولايات المتحدة المركز 18 في التقرير).
وجاء أيضا في تقرير السعادة هذا أن المهاجرين الى الدول العشرة الأوائل (الأكثر سعادة) في القائمة، قالوا إنهم أيضا يحسون بالسعادة، ولا ينبغي أن يثير ذلك أي قدر من الدهشة لأن ـ مثلا ـ كل سوري/ عراقي/ سوداني/ جزائري ذي حس سليم يدرك فور قبوله لاجئا في أي بلد أوروبي أن "أمه داعية له"، وأن رضا الوالدين هو الذي أخرجه من ظلم وظلام بلاده، إلى حيث يحس بآدميته وقيمته، وحتى تحرشات النازيين الجدد بالمهاجرين عموما تعتبر نوعا من الغزل الخشن، مقارنة بما عاناه أولئك من حكومات بلدانهم.
والشاهد: لا الموقع الجغرافي ولا لون البشرة يكفلان السعادة للإنسان، وراحة البال لا تأتي من وفرة المال أو كثرة العيال، بل بالعيش في وسط يصون الكرامة والحقوق، والعرب بفضل الله شرعوا في تلمس طريقهم نحو مجتمعات معافاة من البطش واللطش، يتساوى فيها الناس لأنهم أبناء حواء وآدم وليس بسبب ولائهم لقبيلة أو حاكم، وأول الغيث دمٌ ثم الربيع المستدام.