"
الموصل تحتضر، والناس متّهمة دون أيّ جُرم، وغالبيّة القوى الأمنيّة تنظر للمواطنين على أنّهم من الإرهابيّين، وبعض المعاملات في دوائر الدولة لا بد أن يُرفق معها التصريح الأمنيّ، والناس خائفة رغم أنّهم من تعرّضوا للأذى، وهدّمت منازلهم ووسائل معاشهم، والحشود الشعبيّة والمتنفّذون يستغلّون الحالة المُربكة، ويحلبون بقرة تلفظ أنفاسها الأخيرة، وغالبيّة مسؤوليها يعيشون خارجها ويجاملون منْ ينهبها لأسباب عديدة، ولا أحد يستطيع الكلام"!
بهذه الكلمات المؤلمة المرعبة، والمليئة بالظلم والخوف والسوداويّة، اختصر لي أحد وجهاء مدينة الموصل الحدباء؛ وضعيّة المدينة منذ انتهاء المعارك فيها قبل أكثر من عامين، وحتّى اليوم.
معادلة غريبة، المواطن متّهم، والمسؤول (في الغالب) متواطئ مع القوى المالكة للسلاح ضدّ أبناء مدينته، وكأنّنا أمام أحد مشاهد القرون الوسطى، ومنْ يعترض فمصيره إمّا التصفية الجسديّة، أو الاعتقال بتهمة الإرهاب، أو غيرهما من صور الابتزاز والترهيب الجاهزة!
الموصل قصّة مدينة نخرها الإرهاب، وتذبح بحجّة مكافحته، وتُباع وتُشترى من القوى المالكة للسلاح، وتتناحر فيها المشاريع المتناقضة!
الموصل التي وقعت فيها
كارثة العبارة وراح ضحيّتها أكثر من مائتيّ مواطن، هي مدينة منكوبة بامتياز!
واليوم هنالك حديث عن أنّ طاقة العبارة التحميليّة هي 50 شخصاً فقط، وأنّ الذين كانوا على متنها أكثر من 250 مواطنا، فكيف سُمح للمسؤولين عن العبارة أن يُغامروا بحياة هؤلاء، في وقت كانت فيه مياه دجلة مرتفعة ومتدفّقة وغاضبة بشكل غير معتاد؟
ويوم الأربعاء الماضي، أكّد نوّاب عن محافظة نينوى في بيان أنّ "التحقيقات أثبتت أنّ مليشيا عصائب أهل الحقّ شريكة لمستثمر الجزيرة (عبيد الحديدي)، وأنّ حيدر الساعدي الذي يُقَدِّم نفسه للمسؤولين والنوّاب بوصفه ممثّل العصائب في الموصل؛ كان من بين الذين افتتحوا الجزيرة مع المحافظ والقادة الأمنيّين"!
القتل الجماعيّ في نهر دجلة كان بداية لمرحلة جديدة في الموصل، وأولى صورها الغضب الشعبيّ
برفض استقبال رئيس الجمهوريّة برهم صالح، وكذلك ضرب سيّارة المحافظ نوفل العاكوب،
الذي تمّت إقالته ونائبيه من قبل مجلس النوّاب، بعد توصية رئيس الوزراء عادل عبد المهدي.
بعد إقالة العاكوب، بدأت جولة جديدة من مظاهر الفساد الإداريّ في الموصل، حيث أكّد النائب عن محافظة نينوى عبد الرحيم الشمري، أنّ "بعض أعضاء مجلس المحافظة في أربيل يساومون على منصب المحافظ"!
الفساد في الموصل لم تبدأ حكايته مع كارثة العبارة، بل هنالك عشرات الملفّات الغامضة، ومنها ملفّات الإعمار، والتعويضات والمعتقلات!
ويوم الأربعاء الماضي، كشف "تقرير لجنة تقصي الحقائق في الموصل" عن وجود آلاف الموقوفين الأبرياء من دون محاكم، وعن حالات ابتزاز للمواطنين تمارسها قوّات الأمن الحكوميّ، وقيام
مليشيات مسلّحة بالاستيلاء على دور عبادة من منطلقات طائفيّة"!
حكومة بغداد نصّبت بعد مجزرة العبارة خليّة أزمة تدير المحافظة، إلى حين انتخاب مجلس المحافظة لمحافظ جديد، وهذا برأييّ حلّ غير جذريّ، وأتصوّر أنّ الموصل بحاجة إلى حاكم عسكريّ مهنيّ يمتلك صلاحيّات خاصّة، وتكون تحت إمرته قوّة عسكريّة تنفيذيّة وميزانيّة إعمار كاملة؛ وذلك لانتشال المدينة من حالة الدمار الإداريّ والمادّيّ، وتكون هذه الشخصيّة ذات مواصفات خاصّة، كأن يكون من ضبّاط الموصل الذين عُرفوا بالمهنيّة والقدرة على تنفيذ المشاريع وفرض هيبة القانون!
والتأكيد على عسكرة إدارة الموصل ليس من باب إرهاب الأهالي، وإنّما على خلاف ذلك تماماً، فالغاية هي إرهاب المكاتب الاقتصاديّة التابعة لبعض المليشيات، والعمل على إغلاقها وطردها خارج المدينة، وتنفيذ خطّة إعمار عاجلة بأمد محدود لا يتعدّى العام الواحد!
حكومة بغداد إن لم تسع لإنقاذ الموصل، فأعتقد أنّ شبابها الذين طردوا المحافظ واستقبلوا رئيس الجمهوريّة بطريقة غير متوقّعة، وكذلك هتافاتهم بأنّ "جميع ساسة العمليّة السياسيّة لصوص".. هؤلاء الشباب سيكون لهم كلمتهم وموقفهم، وأظنّ أنّ إرضاءهم من أهم واجبات الحكومات الناجحة، وإلا فإنّهم يمكن أن يقلبوا الموصل على كلّ الفاسدين!
فهل ستفهم الحكومة هذه الحقيقة، أم ستترك الموصل لقمة لقوّى الإرهاب الإداريّ والمليشياويّ؟