قد لا يختلف اثنان اليوم في المنطقة حول ما حققته الثورات العربية من مكاسب كبيرة لصالح الوعي الجمعي عربيا وإسلاميا وكأن المنطقة كانت مغلّفة ومغلقة بمغالق النظام الاستبدادي الذي حال دون إدراك فعلي لطبيعة المكونات داخله. صحيح أن أثر التغيرات الاجتماعية والاحتجاجات الشعبية الأخيرة كان كارثيا من جهة الكلفة البشرية والمادية بشكل جعل أبواق القوى المعادية للثورات تمعن في شيطنة الحراك الشعبي وتعتبره أم الكوارث جميعها. لكنه من جهة أخرى حقق مكاسب هائلة في تحريك المياه الراكدة التي كان العقل العربي قابعا في أعماقها.
قبل الانفجار الكبير
لم يكن الانفجار التونسي الكبير منذ ثماني سنوات يُنبئ بحجم الزيف والتضليل الذي عاشت الأمة عقودا طويلة تحت سطوته. فقد كانت الثورات الشعبية ثورات مطلبية تحمل في طياتها وعيا أساسيا يتمثل في ضرورة التغيير وفي أن الوضع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لم يعد يُحتمل كما يحدث اليوم في الجزائر وقبلها في سوريا وتونس ومصر وليبيا. لكن الصراع الذي أعقب سقوط الأنظمة بين قوى الثورة الوليدة والقوى المعادية للثورات أظهر حقيقة جديدة تتمثل في جهل الكثيرين بطبيعة المعركة الدائرة وبطبيعة مكوناتها.
ففي أغلب الأقطار العربية كان المشهد قائما على ثنائية كبيرة ثابتة بين السلطة السياسية من ناحية ممثلة في النظام القائم بشكليه الوراثي أو الجمهوري العسكري من جهة ومجموعة من القوى المعارضة التي تجمع أحزابا سياسية ونخبا فكرية تختلف رؤاها ومشاربها. كما أن الأنظمة الرسمية العربية كانت تنقسم بدورها إلى مدارس أو محاور مثل محور المقاومة أو محور الاعتدال مثلا لكن رغم هذه الاختلافات فقد كانت الصورة النمطية القائمة مؤسسة على جملة من الثوابت مثل الموقف من القضية الفلسطينة.
الثابت الأكيد هو أن انكشاف زيف النخب العربية وعجزها يمثلان مكسبا أساسيا في المرحلة الراهنة وهو المكسب الذي سيتأسس عليه فعل إعادة تشكيل نخب حقيقية في المرحلة المقبلة.
كان العقل العربي الجمعي قائما على جملة من المقولات والشعارات التي شكلت لها مدارس فكرية تعبر عنها مثل المدارس الاشتراكية أو المدارس القومية أو المدارس الإسلامية أو اللبرالية. وقد نجحت أغلب هذه المدارس ونخبها في استقطاب جزء كبير من الرأي العام العربي الذي تأثر بمقولاتها ونظريتها إلى حد كبير. لكن لا بد من الاشارة هنا إلى أن التماهي كان حاضرا بين هذه المدارس والتيارات وبين السلطة السياسية الحاكمة بل إن أغلب الأنظمة العربية قد تأسست على تحالف وثيق مع هذه المدارس والتيارات. ففي مصر وليبيا والعراق وسوريا كانت الفكرة القومية فكرة جامعة وشعارا عليه قامت نظرية الدولة في الحكم هذا بقطع النظر عن مدى تطبيق الفكرة وممارستها. في الخليج مثلا كانت مقولة الدولة المسلمة أو الدولة الدينية مقولة أساسية في الحكم في بلد مثل السعودية التي تأسست على تحالف القبيلة بالمذهب.
الربيع وتفكك الصورة
الثابت الأكيد هو أن المدارس الفكرية العربية بكل شعاراتها ومقولاتها لم تكن محرك ثورات الربيع كما أنها لم تقد الموجة الشعبية التي أدت إلى سقوط الأنظمة. بل إن الموجات الاحتجاجية كانت موجهة أساسا ضد أنظمة اعتمدت فيما اعتمدت عليه على هذه الرؤى والمقولات في مصر أو في ليبيا أو في سوريا مثلا.
لا بد من الإقرار أولا أن محرّك الموجات الشعبية ليست المدارس الإيديولوجية ولا النخب الحاملة لها بل كانت موجات قاعدية تلقائية في طورها الانفجاري الأول كما نشاهد اليوم في الجزائر. لكن في مرحلة ثانية من الثورات ومع انحسار المدّ الشعبي تقدمت المشهد النخب السياسية والفكرية بخلفياتها وانتماءاتها وولاءاتها من الإسلامي إلى اللبرالي إلى القومي والاشتراكي وغيرهم كثير. كان هذا التبادل في الأدوار أمرا طبيعيا بسبب عجز القوى الشعبية أو بسبب غفلتها عن إفراز نخب قادرة على تنفيذ المرحلة الانتقالية.
لكن المفاجئ في المشهد الانتقالي هو أن كل النخب الفكرية التي كانت تعارض النظام القائم خاصة أنها فشلت فشلا ذريعا في تحقيق شعارات الثورة من ناحية أولى كما ساهمت عبر ذلك في وأد الحراك الثوري وفي تيسير عملية الانقلاب على الحراك الجماهيري. بل إن الكثير من المدارس الفكرية العربية بما فيها بعض المدارس الاسلامية أثبتت أنها كانت جزءا أصيلا من النظام الاستبدادي القائم فقد دافعت عنه بشراسة كبيرة وساهمت معه في مشروعه الانقلابي مثلما ما فعل التيار السلفي ممثلا في حزب النور في مصر مثلا.
إعادة تركيب الصورة
لكن رغم الفاجعة الكبيرة التي فُجعت بها الأمة في نخبها ومدارسها الفكرية والسياسية إلا أن المكسب كان كبيرا أيضا من ناحية كشف المشهد العربي. سقطت إذن كل شعارات المقاومة والممانعة وكل شعارات الدولة الإسلامية وسحبت معها كل التيارات السياسية المعارضة التي كانت تدّعي زورا معارضة النظام. كما ترنحت وجوه فكرية كبيرة كانت إلى حد قريب جدا ناطقة باسم الجماهير وكافرة بمنطق الاستبداد قبل أن تظهر من أكبر حراسه وداعميه.
بناء عليه يظهر جليا أن النظام الاستبدادي العربي لم يحكم وحده وما كان له أن يبقى جاثما على رقاب الأمة عقودا من الزمن لولا النخب الفكرية والمدارس السياسية المعارضة التي صنعها أو شارك في صناعتها من أجل أن تعيده إلى الواجهة عندما يسقط وهو ما حدث فعلا.
إن الكثير من المدارس الفكرية العربية بما فيها بعض المدارس الاسلامية أثبتت أنها كانت جزءا أصيلا من النظام الاستبدادي القائم
لكن ما العمل؟ وكيف يمكن للأمة اليوم أن تعيد تشكيل نخبها ووعيها؟ وهل من ضامن لبروز وعي جديد قادر على منع تجدد الظواهر السابقة؟
الثابت الأكيد هو أن انكشاف زيف النخب العربية وعجزها يمثلان مكسبا أساسيا في المرحلة الراهنة وهو المكسب الذي سيتأسس عليه فعل إعادة تشكيل نخب حقيقية في المرحلة المقبلة. إن نهاية المرحلة الحالية من التغيير العربي ستجرف معها النخب السياسية والفكرية العربية التي تبدي اليوم شراسة كبيرة في معاداة ثورات الشعوب وشيطنتها لأن انتصار هذه الثورات يعني نهايتها الحتمية.
إن توحش النخب الليبرالية اليوم في الخليج مثلا أو انزلاق النخب الدينية نحو تأييد النظام الاستبدادي أو اصطفاف النخب القومية وراء مجازر النظام في سوريا يكشف أنها على وعي بأن نهاية هذا النظام تعني نهايتها أيضا ونهاية مقولاتها. هذه النهاية هي التي ستفتح المجال أمام تشكل نخب جديدة حاملة لوعي جديد يقوم أساسا على شرط القطع مع الأنساق الفكرية والمعرفية التي أسندت منظومة الاستبداد العربي منذ عقود ومنع تجددها.