لم تتمكن جميع المبادرات الحكومية الفرنسية ولا تجوال الرئيس/ السندباد إيمانويل ماكرون في مختلف المدن والجهات مشاركا في الحوار الوطني، الذي دعا إليه لفتح المجال أمام مختلف الشرائح المجتمعية والمهنية للمساهمة في بلورة نموذج تنموي اقتصادي واجتماعي بديل، في كبح أو إضعاف حركة "السترات الصفراء"، وفصلها عن الدعم الشعبي بالرغم من تناقص أعداد الحراك الفعلي على الأرض.
اقرأ أيضا: "السترات الصفراء" تعود للشارع من جديد وشرطة فرنسا تتأهب
كما لم تفلح مشاهد العنف من حرق بعض المنشآت الرمزية في التاريخ الفرنسي ولا سيارات وممتلكات المواطنين، أو مشاهد حولت شوارع باريس إلى ساحة ملاكمة ضحيتها رجال شرطة وقوات أمن، أو تحذيرات الوزراء وعمداء المدن من الأثر السلبي لاستمرار الحراك الأسبوعي على جودة خدمات المرافق العمومية، وعلى النمو الاقتصادي للأفراد والجماعات في تحقيق النتيجة المرجوة ذاتها، وهي خفوت جذوة الاحتجاجات. رغم كل ما سبق، ظلت الحركة ورموزها عقبة أساسية أمام الحكومة والطبقة السياسية التقليدية، في سعيها للخروج بأقل الأضرار من أزمة طالت ولا أفق قريب لانتهائها.
وقعت في المحظور
في أسبوعها الرابع عشر، وقعت الحركة في المحظور فانقلبت موازين القوى ضدها، والسبب: استخدام بعض من المتظاهرين شعارات وتعابير يصنفها القانون الفرنسي في دائرة "معاداة السامية"، وهي الهدية التي تلقفتها الطبقة السياسية الحاكمة منها والمعارضة للتعريض بالسترات الصفراء ومحاولة شيطنتها أمام الرأي العام، بمساعدة قيمة من وسائل الإعلام التي أفردت للموضوع برامجها النقاشية في تجاوز تام لمطالب السترات الصفراء، التي كانت تعتبر إلى وقت قريب "مطالب جماعية للفرنسيين".
آلان فينكيلكرو، الأكاديمي الفرنسي اليهودي المعروف بمواقفه السلبية من الإسلام والمسلمين بفرنسا، تحول إلى بطل الهوية الوطنية وضحية العنصرية، التي تحتاج إلى دعم الرئيس والحكومة والأحزاب، بعد تعرضه لشتائم اعتبرته "صهيونيا" وطالبته بالرحيل عن فرنسا، بالنظر إلى تغير موقفه من الحركة دعما في البداية إلى وصمها بالسخافة انتهاء. وثقت الكاميرات المشهد فأصبح حديث الإعلام وذريعة الساسة للتحذير من ارتفاع "الأعمال المعادية للسامية"، خصوصا مع توال "مشبوه" لمشاهد مماثلة في أقل من أسبوع، انتهت بتدنيس ما يقارب مائة مدفن بمقبرة يهودية، بالقرب من مدينة ستراسبورغ، بصلبان معقوفة نازية، وهي العملية التي طالت قبلها صورا للسياسية الراحلة سيمون فيل، الناجية من معتقل أوشفيتز، وشجرة رمزية تعرضت للقطع، وهي التي زُرِعت تكريما للشاب اليهودي إيلان حليمي، الذي كان تعرض لعملية اختطاف وتعذيب أفضت لوفاته في العام 2006.
منع المواطن الفرنسي من إبداء رأيه في قيام "دولة" إسرائيل كنتاج إيديولوجية صهيونية تأسست مع هرتزل، اعتداء فاضح على الحرية التي تتغنى بها فرنسا.
اقرأ أيضا: ماكرون يتبنى تعريفا يعتبر انتقاد الصهيونية "معاداة للسامية"
منع المواطن الفرنسي من إبداء رأيه في قيام "دولة" إسرائيل كنتاج إيديولوجية صهيونية تأسست مع هرتزل، اعتداء فاضح على الحرية التي تتغنى بها فرنسا الشعارات. والمساواة بين "السامية" والصهيونية يفتح الباب مشرعا أمام لوبيات الضغط اليهودي، وعلى رأسها منظمة الأيكرا، لنصب محاكم تفتيش لكل المختلفين مع الجرائم الإسرائيلية في الماضي كما الحاضر، بعد أن تتكرس الدولة "اليهودية" صنما جديدا لا مجال للمساس به دون عقاب.
واقع الحال يثبت أن الأمر مكرس فعليا على الأرض ولا يحتاج إلا لإدراجه في المجال الجنائي، بالرغم من الترسانة القانونية الموجودة أصلا في الاتجاه.
بلال حساني والأوروفيزيون
قبل أسابيع، اختير بلال حساني لتمثيل فرنسا بمسابقة الأوروفيزيون وتضامنت معه كل الأبواق الإعلامية أمام الحملة المستهدفة لميولاته الجنسية، قبل أن تنقلب الآية لمجرد "اكتشاف" تغريدات سابقة له، اتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب في عدوانها على قطاع غزة في العام 2014، وهو ما أعاد النقاش حول أحقيته في تمثيل فرنسا في المسابقة الأوروبية التي ستقام، ويا للمفارقة، في إسرائيل.
حادثة بلال تعيد إلى الأذهان ما تعرضت له الشابة الفرنسية من أصول سورية، منال ابتسام، التي حذفت مشاركتها الموسم الماضي ببرنامج المسابقات ذافويس للأسباب ذاتها، وقبلها فنانون كثر استبعدوا من التلفزيون أو واجهوا قضايا أمام المحاكم لمجرد خروجهم عن الخطاب "الإعلامي" المتواطئ عليه.
ما تتعرض له مختلف الأديان ورموزها ومختلف العرقيات وحضاراتها بفرنسا لا يحرك لدى المتباكين على ارتفاع حالات معاداة "السامية" ساكنا.
عن نفاس الثورة السودانية والنفس الطويل
عليكم بالرحيل ولا عليكم بالبديل