يقولون: "الاحتياط واجب"، لكنه في حالة السيسي تحول إلى هوس، فهو يشغل نفسه بوضع النص، ثم سد ثغراته، حتى يحتاط لقدره، فاته أنه يُؤتى الحذر من مأمنه.
فالتعديلات الدستورية، التي ناقشها برلمانه من حيث المبدأ، فوجئ الرأي العام بما لم يكن مطروحاً على جدول الأعمال، وهو النص الذي جرى استحداثه من العدم، والذي يمكن الجيش من أن يكون السلطة الأعلى في البلاد، ومنوطاً بها حماية الدولة، والدستور، والديمقراطية، وعلى نحو يوحي بأن عبد الفتاح السيسي في حكم المثل الشعبي: "قاعدة ومرتاحة فجابت لنفسها رداحة".. من الردح (انظر إلى أداء غادة عجمي على قناة "فرانس 24" لتعرف الردح على أصوله)، وهو مثل يطلق على بعض النسوة، اللاتي يتسببن في الإضرار بأنفسهن، من خلال السماح لأزواجهن بالزواج من ثانية، وإن كان يطلق في حالات دون ذلك!
فوجئ الرأي العام بما لم يكن مطروحاً على جدول الأعمال، وهو النص الذي جرى استحداثه من العدم، والذي يمكن الجيش من أن يكون السلطة الأعلى في البلاد، ومنوطاً بها حماية الدولة، والدستور
وثيقة السلمي
الدستور الحالي، يمنع استحداث المواد من العدم، فلا يجوز سوى تعديل مادة أو أكثر من مواده، عدا النصوص الخاصة بالحرية وبانتخابات الرئاسة. ومهما يكن، فإن هذا السماح الدستوري بالتعديل لا يمكن من لهم الحق في طلب التعديل باستحداث مادة، أو اختراع نص ليس موجوداً، وهذا ليس موضوعنا!
فمنذ بداية الثورة، والأزمة الخافتة هي حول محاولات المجلس الأعلى للقوات المسلحة وضع مثل هذا النص، وقد تضمنته وثيقة السلمي، سيئة الصيت، وهى الوثيقة التي كنا نعلم أن المجلس العسكري هو من يقف وراءها وإن نسبها لنائب رئيس الوزراء حينذاك الدكتور علي السلمي، وقبل هذه الوثيقة فإن من طالب بترتيب وضعاً للجيش كانت هي القوى المدنية، وذلك عندما تبين لها أن أي انتخابات سيفوز الإسلاميون بالأغلبية فيها، فارتضوا أن يكون الجيش هو الحكم!
وحتى الدكتور محمد البرادعي نفسه طالب بهذا، وبدا أن هناك توافقاً على هذا الطلب الغريب، لكني تصديت له وبالكتابة المكثفة ضده وضد الوثيقة بشكل عام، ولم أجد من يؤوب معي.. ومما قلت، إن هذا ضد طبيعة الأشياء، "فالحدية لا تحدف كتاكيت، والعسكر لا يمكن أن يكونوا رعاة للدولة المدنية"، ولم يجهر الإخوان أنفسهم برفض هذا المطلب، لكن بدا واضحاً أنهم كانوا يخططون لسحب الأمر بعيدا، ومن هنا كانت الفتنة الدستور أولاً، أم الانتخابات أولاً، وكان المجلس العسكري حريصاً على ألا يغادر الحكم إلا بعد وضع الدستور ليضمن وضع هذه المدة، لتجعل منه "الولي الفقيه" الذي هو أكبر من الدولة، والحكم بين سلطاتها!
كان الترويج لهذا الجنون، يعتمد في البداية على دعاية كاذبة، هي أن الجيش حمى الثورة، ورفض تنفيذ أوامر مبارك بضرب الثوار بالرصاص الحي، فضلا عن أن الجيش هو من أمر مبارك بالتنحي، ولم يكن هذا صحيحاً بشهادة سرية للمشير محمد حسين طنطاوي، سقطت سريتها الآن، وصار الاطلاع عليها متاحاً لمن يريد!
الترويج لهذا الجنون، يعتمد في البداية على دعاية كاذبة، هي أن الجيش حمى الثورة، ورفض تنفيذ أوامر مبارك بضرب الثوار بالرصاص الحي، فضلا عن أن الجيش هو من أمر مبارك بالتنحي، ولم يكن هذا صحيحاً
طبيعة السيسي
بانتهاء شهر العسل، بين المجلس العسكري والثوار، سقط مطلب "الجيش هو الحامي للدولة المدنية"، ليكون الهتاف هو بسقوط حكم العسكر، ولم يتضمن دستور 2012 هذا النص بطبيعة الحال، ولم يطلب أحد به. وعندما وقع الانقلاب العسكري، لم يطلب أحد بهذا النص في الدستور الحالي، والذي كان بيد العسكر أن يضعوه، لكن لم يكونوا يريدون الظهور بمظهر الطامع في سلطة أو الراغب في سيطرة!
بيد أن هذا النص المقبور عاد مرة أخرى في طلب التعديل، الذي تقدم به نواب، كان دورهم هو التوقيع على تعديلات معدة سلفاً بواسطة خبراء كما يبدو، وكانت سياسة "الاحتياط" واضحة، فلم يترك الأمر للاجتهاد، وإنما تضمنت نصاً معيباً يقر حق "الرئيس الحالي" في الترشح لدورتين جديدتين، مع أنه انتخب على أساس نصوص أخرى، أقسم على احترامها!
ولأننا نعرف طبيعة السيسي، فقد كان السؤال الذي طرح نفسه ونحن نطالع هذه التعديلات، فماذا كان في ذهنه وهو يرتب وضعا للجيش، يمكنه من خلاله أن يطيح به، دون أن يُسمى هذا انقلاباً عسكرياً؟ فالجيش استخدم الصلاحيات المنصوص عليها في الدستور لا أكثر ولا أقل!
نعرف طبيعة السيسي، فقد كان السؤال الذي طرح نفسه ونحن نطالع هذه التعديلات، فماذا كان في ذهنه وهو يرتب وضعا للجيش، يمكنه من خلاله أن يطيح به، دون أن يُسمى هذا انقلاباً عسكرياً؟
عندما بدأ التبشير بالتعديلات الدستورية، كان واضحاً أن هناك خشية من ألا يوافق الخارج الأمريكي على استمرار السيسي في السلطة بعد دورتيه، ولهذا جاء في المقال الأول لـ"ياسر رزق" أن السيسي لن يغادر القصر الجمهوري إلى بيته، وهو ما فسرناه بأنه ينوي ترشيح "خيال مآته" آخر، ويأتي بمحلل لدورة واحدة، حتى إذا قضى منها وطراً عاد السيسي للحكم مرة أخرى، وكتبت حينئذ أنه قد يفكر في الجمع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس الوزراء، كمرحلة الأولى، وفي المرحلة الثانية، وهو يستعد لمغادرة القصر وقبل تسليم السلطة للرئيس المنتخب، يجمع بين رئاسة الوزراء ومنصب وزير الدفاع!
لكن من الواضح أنه تقرر تعديل الدستور بما يسمح له بالترشح من جديد، ومع هذا احتاط لأي احتمال لم يكن في الحسبان!
عقدة النكاح
فقد تدفع الأحوال في الداخل في اتجاه عدم بقائه في السلطة، فيكون ملاذه الأخير في العودة وزيرا للدفاع، وقد رتبت التعديلات للجيش السيطرة على الدولة بنصوص الدستور!
وقد يتدخل البيت الأبيض كما تدخل في سنة 2016، وطلب بعدم تعديل النصوص الخاصة بانتخابات الرئاسة، فترتب على التراجع استجابة للأمر الأمريكي أن أعلن علي عبد العال أن الدستور يمنع تعديل المواد الخاصة بانتخابات رئاسة الجمهورية.
قد يجد في الأمور أموراً، فيسقط في الانتخابات، أو يمنع من خوضها بعد التعديلات لسبب أو لآخر، وساعتها يلجأ لخط الدفاع الأخير، وهو العودة لوزارة الدفاع
وقد يجد في الأمور أموراً، فيسقط في الانتخابات، أو يمنع من خوضها بعد التعديلات لسبب أو لآخر، وساعتها يلجأ لخط الدفاع الأخير، وهو العودة لوزارة الدفاع، حيث الجيش هو المهيمن على الدولة باعتباره "صاحب عقدة النكاح"!
وإن كنت أعتقد، أنه بعد أن تم التذكير بأن النص الجديد قد يمكن الجيش من عزله في المستقبل، فضلاً عن
تصريح السفيرة الأمريكية السابقة بالقاهرة من أن الجيش عزل مبارك، ومرسي، وقد يعزل السيسي، فإنه قد يعتبر هذا النص تهديد له، ومن ثم فقد أصبح الآن في "حيص بيص"، وقد يفكر جدياً في إلغائه، وهناك تلميحات صدرت من مسؤولين تفيد بوجود هذا الارتباك.
"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون".